اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي

طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي

نشر في: 25 أكتوبر, 2023: 09:57 م

فراس ناجي*

أثير الكثير من الجدال حول معركة طوفان الأقصى، فيشبّهها البعض بهجمات11 سبتمبر 2001المتطرفة والتي لن يحصد منها الفلسطينيون الأبرياء الا الدمار، ويمجدها البعض الاخر كضربة بطولية لعنجهية إسرائيل لم تتلقَّ مثلها منذ حرب أكتوبر في 1973،

بينما يراها آخرون تخدم المصلحة الإيرانية لكن بثمن باهض تدفعه شعوب الدول العربية المجاورة لإسرائيل.إلا إنها من منظور آخرتمثّل محطة فارقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي،ما يمكنها ان تكون المدخل الى تغيير الخريطة الجيوستراتيجية للشرق الأوسط، وبالتالي ذات تأثير كبير على المشهد السياسي في العراق.

البعد الجيوستراتيجي لمعركة طوفان الأقصى

عسكرياً، حققت المقاومة الفلسطينية إنجازاً متميزاً نقل بالمعركة الى أراضي فلسطين التاريخية، لم يتمكن من تحقيقه لا الجيش المصري في أكتوبر 1973 ولا حزب الله اللبناني في 2006. فقد اخترقت الجدار الأمني حول غزة وسيطرت على قاعدة عسكرية كبيرة ونحو 20 مستوطنة إسرائيلية، مع تحييد وأسر عدد كبير من العسكريين بينهم ضباط كبار بالإضافة الى الخسائر في المدنيين، كل هذا عبر تنسيق عسكري استخباراتي غير مسبوق وبأسلحة جوية وبرية وبحرية.

أما البعد السياسي لهذه المعركة فهو أكثر دلالة، فقد تحطّمت الصورة الأسطورية لإسرائيل كدولة لا تُقهر، تنعم بالأمان داخل حدودها المحمية من الجو والبر والبحر، بينما تتحكم هي بالفلسطينيين المطوقين بصورة كاملة وتخترقهم أمنياً واستخباراتياً في كل تفاصيل حياتهم. لقد أثبتت المعركة فشل ستراتيجية اسرائيل الأمنية وكشفت عن أرض بدون دفاعات حقيقية وجيش مُهلهل ومدنيين بدون حماية. إن صدمة الهزيمة في إسرائيل اليوم ليس من السهل تجاوزها، خصوصاً اذا أخذنا في الاعتبار الانقسام المجتمعي الحاد فيها بين معسكر العلمانيين ومعسكر المتشددين اليهود؛ مع ملاحظة ازدياد حالات العصيان والتخلف عن الخدمة العسكرية في صفوف العلمانيين احتجاجاً على عدم خدمة المتشددين اليهود في الجيش، واستئثارهم بالمساعدات المالية وسياساتهم الحكومية في التطرف الديني وزيادة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لقدتحولت أرجحية توازن القوة ستراتيجياً نحو محور المقاومة بصورة كبيرة على نحوٍ من الصعب على إسرائيل إعادته الى سابق عهده، ناهيك عن إعادة تشكيله لصالحها. فقد ترسخت من خلال معركة طوفان الأقصى قواعد اشتباك جديدة تعجز إسرائيل في الوقت الحاضر عن ردع المقاومة عنها، تتضمن اختراق الحدود والصدام مع إسرائيل عسكرياً على أكثر من جبهة في وقت واحد. كذلك ترسخت الشرعية السياسية للمقاومة الفلسطينية بقيادة حماس في مجموع الأرض الفلسطينية وإقليمياً بوصفها الفاعل الفلسطيني الرئيسي على حساب السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

إلا إن الأهم من ذلك هو تصدع قوة الردع الحربي لإسرائيل والتي أقنعت فيها الدول العربية عبر حروبها السابقة، بأن تفوقها العسكري ودعم الولايات المتحدة الأمريكية لها يحيل أي تحدي لها الى خيار خاسر مسبقاً. وكانت الولايات المتحدة قد استثمرت قوة الردع هذهللتحول من ستراتيجيتها السابقة في التدخل العسكري المباشر في الشرق الأوسط الى ستراتيجيتها البديلة في "التوازن عن بُعد" offshore balancingبما يتيح لها إعادة تموضعها الدولي للتركيز على تحديات احتواء قوة الصين المتعاظمة في منطقتي شرق آسيا والمحيط الهادئ. فتكون قوة الردع الإسرائيلية رأس الحربة في مواجهة التهديدات المشتركة للمعسكر الأمريكي-الإسرائيلي وحلفائه من جانب إيران وأذرعها في المنطقة.فقد شرعت أمريكا بربط الجيش الإسرائيلي مع الجيوش العربية في بنية أمنية واحدة نتج عنها نقل إسرائيل في 2021 من منطقة عمليات القيادة الاوربية للقوات الامريكية الى منطقة عمليات القيادة المركزية المشرفة على دفاعات الدول الخليجية، مع تأسيس نظام للدفاع الجوي المشترك بين الأطراف المتحالفة.

ولعل مقارنة معركة طوفان الأقصى بهجوم "تيت" في الحرب التحررية الفيتنامية في يناير 1968 يمكّننا من تقييم إنجازها السياسي الفارق في هذا النطاق بصورة ملموسة أكثر. فحينها قامت قوات مشتركة من فيتنام الشمالية وثوار الفيتكونج بهجوم مباغت اخترقت فيه دفاعات فيتنام الجنوبية التي كانت تدعمها القوات الامريكية، نقلت فيه المعركة من المناطق الحدودية الى قلب نظام العدو فوصلت فيه الى السفارة الامريكية والقصر الرئاسي في سايغون بالإضافة الى عدد كبير من المدن الفيتنامية الجنوبية. وعلى الرغم من اندحار مقاتلي المقاومة الفيتناميين وعدم تحقيقهم للأهداف المرجوة حينها مع تكبدهم خسائر فادحة (45 ألف قتيل للمقاومة الفيتنامية مقابل 9 الاف قتيل للقوات الامريكية والفيتنامية الجنوبية)، إلا إن النتائج السياسية للهجوم حققت تغيّراً في موازين القوى الجيوستراتيجية لصالح حركة التحرر الفيتنامية. فقد أثبت الهجوم هشاشة دفاعات القوات الفيتنامية الجنوبية رغم دعم القوات الامريكية لها، ما أفقد ثقة الإدارة الامريكية في قدرة حليفتها على الانتصار في الحرب،بالإضافة الى تزايد تكلفتها البشرية والاقتصادية على المجتمع الأمريكي، ما أدى في النهاية الى الهزيمة والانسحاب غير المشروط للقوات الامريكية وسقوط النظام السياسي الفيتنامي الجنوبي في 1975.

ومن نفس هذا المنظور، يبدو إن معركة طوفان الأقصى قد كشفت عن إن إسرائيل يمكن ان تكون عبئاً على أمريكا أكثر من كونها الوكيل المنشود لردع التحديات الاقليمية المشتركة ومساعدة الولايات المتحدة في التركيز على أولوياتها العالمية. فقد انخرطت أمريكا في حرب غزة بصورة غير مسبوقة في أي من حروب اسرائيل السابقة، والذي شمل تحريك حاملات طائرات وقوات قتالية أمريكية الى إسرائيل مع زيارة الرئيس الأمريكي بايدن وطاقمه الحربي إليها لمساعدتها على تجاوز حالة الصدمة في صفوفها وردع أي جبهة جديدة يمكن ان تنفتح ضدها.وبتقويضها قوة الردع الإقليمية لإسرائيل، سددت معركة طوفان الأقصى ضربة قاضية لمشروع التحالف الجيوستراتيجي العربي-الإسرائيلي. فقد صرّح جو بوتشينو المدير السابق للاتصالات في القيادة المركزية الأمريكية ان " طوفان الأقصى حطم الحلم بالتكامل الأمني بين إسرائيل والعرب"، لافتاً إلى إن طوفان الأقصى سيؤدي "إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية في الشرق الأوسط لعقود من الزمن"، مشيراً الى الفجوة الواسعة بين إسرائيل ودول الخليج – خاصة السعودية التي بلورت موقفاً حاسماً لمنظمة التعاون الإسلامي ضد إسرائيل – في أعقاب العدوان الإسرائيلي الوحشي على المدنيين في غزة.

تداعيات طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي

بِغَض النظر عن هدفها المُعلن من تدمير القدرة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، يبدو ان إسرائيل سوف لن تتمكن سوى من سفح المزيد من الدم الفلسطيني في حربها الحالية على غزة بدون رد الاعتبار لقوة ردعها العسكرية التي مرّغته في الوحل ضربة طوفان الأقصى الستراتيجية. وهذا يعني إنه سيكون من الصعب على الولايات المتحدة اقناع دول الخليج بأن السبيل لحماية مصالحها هو التحالف العسكري مع إسرائيل كرأس حربة لردع التهديد الإيراني في المنطقة، خاصة وإن القضية الفلسطينية الآن قد استعادت بعضاً من مركزيتها الاقليمية، فيما فقدت أمريكا مصداقيتها للعب دور الوسيط والضامن للسلم والاستقرار في المنطقة مقابل قوى عالمية أخرى مثل الصين أو روسيا.

في المقابل، يبدو إن السعودية ستبتعد عن أي خطوات محتملة نحو التطبيع مع إسرائيل أو تعزيز التعاون الجيوستراتيجي الدفاعي معها في المستقبل المنظور، أولاً لأنها بدأت تشكك بقدرة النظام العسكري الإقليمي الأمريكي-الإسرائيلي على ردع ايران ومحور المقاومة، وثانياً لأن حوافز التهدئة المباشرة بين السعودية وإيران توفر مردودات أكبر ويقين أكثر من حوافز الردع العسكري في الوقت الحاضر. وما يعزز هذا الاعتقاد هو الاتصال الهاتفي الأخير بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإيراني رئيسي مع اللقاءات المتعددة بين وزراء خارجية البلدين، بالإضافة الى تأكيدات إيران استعدادها للتحاور مع السعودية لمعالجة الخلافات بينهم، ومبادرتها لتأسيس قوة بحرية مشتركة مع دول الخليج تحت رعاية الصين لبناء نظام أمني إقليمي بعيد عن النفوذ الأمريكي.

إن هذه التداعيات الإقليمية المحتملة يمكن أن تمثل فرصة وتحدي في نفس الوقت للعراق ولقواه الوطنية التي تسعى الى بناء دولة السيادة والمواطنة والعدالة الاجتماعية. الفرصة، هي في التحول الجيوستراتيجي الذي سيكون فيه المعسكر الأمريكي- الإسرائيلي فاقداً للمبادرة وفي حالة انحسار للنفوذ في المنطقة، وهي حالة لم نشهدها منذ ستينات القرن الماضي إذ يمكن اعتبار إن معظم المشاكل المستعصية في العراق والمنطقة هي نتاج سياسات أمريكا والغرب واصرارهم على الهيمنة على الشرق الأوسط من خلال اذكاء التصادم بين دولها، بينما يتم دعم إسرائيل لتبقى اليد الطولى للدفاع عن مصالحهم فيها.

إذن، يمكن لنتائج معركة طوفان الأقصى أن تمثل بوادر لفرصة حقيقية للتقارب بين الدول الإقليمية "المشرقية" وتهدئة الصراعات الجانبية بينهم من أجل الدفع بالمصالح المشتركة والتي يمكن أن تتضمن – بالإضافة الى التعاون الاقتصادي - التعاون الجيوستراتيجي.وعلى الرغم من إن أفق هذا التعاون الجيوستراتيجي لا تزال غير واضحة المعالم، إلا إن هذا بالتأكيد سينعكس إيجابياً على الوضع في العراق بوصفه أحد ساحات الصراع الإقليمية، ولكونه يمكن أن يكون الجسر الثقافي والجغرافي للتكامل الإقليمي.

أما التحدي، فهو في كيفية استثمار هذه الفرصة التاريخية من قبل القوى الوطنية العراقية في بلورة مشروع سياسي وطني عابر للأيديولوجيا يعكس هذه التطورات الستراتيجية الإقليمية ويحمل معنى جديد ومتطور لمفاهيم الاستقلال والسيادة والبناء الاقتصادي يمايز فيها بين تدخل القوى الخارجية التي تعمل لصالح المشروع الجيوستراتيجي المشرقي، عن تلك التي تعرقله لمصلحة التحالف الأمريكي-الإسرائيلي. وهذا يستدعي رؤية سياسية واضحة خارج السياقات التقليدية المعروفة للانقسامات السياسية: "المدنية" أو "الليبرالية" أو "الإسلامية". فمثلاً، يمكن أن يكون بعض المنتمين للتيار المدني لا يتعاطفون مع حماس لكونها حركة إسلامية، أو يعملون على الضد من مصالح محور المقاومة إقليمياً بسبب الدور السلبي لإيران في الشأن العراقي؛بينما المطلوب هو إنضاج موقف واضح بين رفض التدخلات الإيرانية في العراق والتي تقوض من سيادة الدولة العراقية وتضعف السلطة الحكومية، وما بين مساندة الموقف الإيراني في دعم جبهات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وموقفها الإقليمي في تأسيس منظومة جديدة للتعاون والتكامل مع دول المنطقة خارجة عن النفوذ الأمريكي-الإسرائيلي.

أما بالنسبة الى الموقف من النفوذ الأمريكي في العراق، فهذا يتطلب رؤية وطنية متكاملة وبرنامج لاستعادة السيادة الوطنية بعيداً عن الاسفاف والنفاق السياسي حول جلاء القوات الأمريكية من العراق، لأن العراق الآن مرهون سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة الى تدخلات الدول المجاورة بسبب ضعف الحكومة في ممارسة سيادتها الداخلية.

وهذا أيضاً يتطلب موقفاً واضحاً من أجل حماية الحقوق المدنية للعراقيين وللمعالجة الكفوءة لآفات الفساد والسلاح المنفلت والتعدي على القوانين التي تنخر الدولة العراقية، والتي بدون تحقيقها لا يمكن النهوض بالواقع العراقي بغض النظر عن الواقع الجيوستراتيجي للمنطقة، خاصة وإن بعض القوى المسلحة والمتسلطة قد تلجأ الى تكميم الافواه والقمع بحجة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وتخوين أي أصوات لا تتفق مع رؤيتها السياسية أو سياساتها المصلحية.

وفيما يتحضر المشهد السياسي في العراق لاستحقاق انتخابات مجالس المحافظات، المطلوب الآن من التحالفات السياسية الوطنية – مثل تحالف قيم المدني –أن توّسع من أفقها السياسي وتعمل على تنضيج برنامجها الوطني لتضمين التحولات الجيوستراتيجية في المنطقة بما يخدم مصلحة العراق وشعبه، خاصة فيما يتعلق بنبذ النزعة الوطنية الضيقة المعادية لدول الجوار وتبني النزعة الوطنية المتآلفة والمتكاملة مع الجوار العربي والإيراني والتركي والمتآخية مع شعوب المنطقة المتعددة. إن شعار "إيران بره بره" هو ليس ضد العدو الفارسي المجوسي كما كان يدعوه النظام البائد، بل هو ضد جارة تجاوزت حقوقها وأضرت بالعراقيين وحان الوقت لعودتها الى صوابها وتحسين العلاقة على أساس الجيرة المتكافلة.

اكاديمي عراقي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. Anonymous

    نتائج ٧ اوكتوبر وخيمه على العرب والفلسطينيين ولحماس وكانت خطا. تحياتي

  2. علاء مهدي

    تحليل قيم للأحداث ينم عن دراسة وافية لها ولظروفها. مقال يستحق القراءة فعلاً

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram