طالب عبد العزيز
نكذب على الحياة، ونكذب على أنفسنا أيضاً، إذا نظرنا الى حياتنا بوصفها أصص ورد وقناني عطر، تمتلأ بالالوان والروائح الزكية، ولا أخصُّ الحياة في شرقنا العربي، إنما الحياة بمجملها، وفي أيِّ مكان، وما الايام والسنين إلا حاويات عملاقة، هي أجسادنا التي نلقي بها نفايات ما نفعله، ليس ما نفعله من شرورحسب، فالخير نفاية أيضاً.
أبصرُ وجهي في المرآة، فلا أراني إلا نفاية كبيرةً لسبعين سنة، من أوهام السعادة والكدِّ والجهد والشقاء.. تراكمت، ولم أعد قادراً على إحتمالها، فأنا أقشط من جسدي كلَّ يوم شيئاً، وألقي به في الحاوية تلك، حتى إذا امتلأت، ولم تعد تستوعبُ فعل ساعة، توقفتُ عن الحياة، ليأتي رافع القمامات الأكبر، فيفرغها، بانتظار آخرَ، يكمل ما ابتدأته، وهكذا. ولا يظننَّ أحدنا بوجود حاويتين، أبداً، هي واحدة لا غير، سترفع بما فيها، وتلقى في مكان بعيد، لن يمرَّ به أحدٌ.هناك متعجلون كثر، يحملون نفاياتهم بين ايديهم، بانتظار حاويتنا التي فرغت تواً، فالخواء مفزعٌ.
يعرفُ الاصدقاءُ زهدي بالثياب والاحذية، ولا يعنيني من أمرها إلا ما يستر ويقي، على خلاف حاجتي الى الكتب والاقلام وأكؤوس النبيذ والفسائل وشق القنوات وتشذيب النخل والاشجار واقتفاء الماء، وقد تختلف عنايتي بما بين يدي، وتحت امرتي، وتفضيلي لهذه على تلك، لكنَّ، في النهاية هي محض نفايات. أفعالنا وكل ما نفكر به ونخطه ونبذل جهدنا ومالنا من أجله سيؤول نفايةً، ستأتي علينا إن لم نلق بها في الحاوية الكبيرة. يحتفظ أهلنا ببعض ما كان عزيزاً علينا في الحياة، اشفاقاً ومحبة منهم، لكنهم سيضيقون به، فلربما وقف عائقاً في طريق سعيهم، أو فائضاً يزاحم نفاياتهم، لكنه، في الاخير سيجد طريقه الى هناك، إلى حيث أفرغ جامعُ النفايات العظيم مادتنا.
ليس في الامر عارٌ على أحد إن قلنا له إنك مجرد نفاية، بل عليه تقبل الامر، بوصفه حقيقة مطلقة، فما في اللفظ شتيمة أو نقيصة لأحد، بل هي حقيقة وجودنا التي نهرب منها، وجوهر ما نحن عليه. يرى الاخلاقيون بأنَّ أفعال الخير وحدها هي الباقية، وكل الأفعال الاخرى زائلة، فيما نحن لا نعثر على حقيقة البقاء والزوال تلك، إلا في الحاوية العملاقة. نعم، الانسان مجبول على صنع الخير، لكنه ليس بعيداً عن دائرة الشرور! ترى، كيف نصنف درجة شعورنا، وفي أيِّ خانة نضعها لحظة نحر الماشية التي سنملأ بطوننا بلحمها؟ بهذا الشعور المفزع اتحسس مقعدي على الكرسي، حيث أكون، مصيغاً لنداء الايدي، التي جردته من حياته في الشجرة، نادباً لحاءها، الذي اخترقته المناشير ونبتت المسامير فيه، مع يقيني بأنهُ الآخر نفاية أخرى.
يقدسُ الناسُ الخيرَ، لأنه فعل محمود، لكنه في الاخير نفاية مقدسة، ضمن التوقيعة الصغيرة هذه يرى صاحب كتاب(عن الفضلات والنفايات وغير الصالح. فلسفة بيئية) فرانسوا داغونيه، بأنَّ إصابة المرء بالمرض توازي الذهاب صوب قدره، ذلك انه أمر يمكن تأجيله في حين لا يمكن تفاديه". ولا تبتعد فكرة الموت عن الرؤية هذه فهو كمالٌ بذاته، وهو هدف الفلسفة الأسمى، لأنه يخلصنا من الجسد ولوثاته الحسية. ألم يكن الجسد ذاته هو مخلصنا من حواس العقل؟ نحن، نعاني من وجودنا الكلي، نشقى بعواطفنا وعقلنا معاً، ولا يختلف شقاء فاعل الخيرعن شقاء متجنب فعله، فهذا يشقى بفعله وذاك يشقى بتجنبه، وكما يقدم هذا يحجم ذاك، الاقدام والاحجام شقاءان شقيقان، سيأخذان بضاعتهما الى الحاوية الكبيرة لا محال.