زهير الجزائري
الخوف
كم من الزمن مضى وأنا ساه هكذا غير قادر على أن أوالف الورق مع القلم؟ أذهب لأشاغل كآبتي بتفكيك السلاح وتركيبه. أمازح أصغر المقاتلين في القاعدة وألفت انتباهه لصدر امرأة تنشر الملابس، ثم تداهمني الكآبة.
أتجول في أزقة المخيم بعدة الإنذار «جيم». وأمامي بخطوات طفل نحيل منتفخ البطن يراقب لحيتي بفضول، وهو يقودني دون أن يدري إلى متاهة مسورة بالصفيح.
.. دون أن يقول كلمة، فتح باب بيتهم وأراني إخوته الذين تناثروا على الأرض الـوحلة، خارج علب الصفيح. شربت من يده كوب ماء دون أن يقول لي كلمة. وارتعش الكوب في يدي حين داهمت نظرته النابتة مكمن كابتي. كافأته برصاصة باردة في راحته، وعدت إلى شجرة الصنوبر.. ركنت رشاشتي وفرشت الورق: كيف أعيد للنقطة نونها وأبدأ الكتابة؟
... لأقل إني رأيت الطائرة آتية نحو حندورة عيني، إلى حيث تأتي السماء مائلة، ومن حيث تذهب الأرض صاعدة نحو الطائرة.. هبطت الطائرة وهي تجر خلفها قماشة السماء الراعشة. تزوغ بين صليات المضادات المرتبكة ثم تصعد من وراء البنايات فتفلت النون من نقطتها وتهجر حجارة البنايات بعضها والحدث اسمه وتفلت من الساعة عقاربها في تلك اللحظة السوداء:
- قصفوا الفاكهاني!
لم أصب، لم تمسني شظية.. انما غمرت روحي بمسحوق البارود المحترق الذي ترك رائحته وملمسه في أنفي و مسامات جلدي ومذاق طعامي وشفة امرأتي وبياض أوراقي.. لقد احتواني البارود من تلك اللحظة إلى الأبد.
- .. الفاكهاني.
.. لن تبقى منه إلا سحابة البارود..
الملجأ
على السلالم يدفعني سيل النازلين وصراخهم.. لا نهاية للسلالم تحت من ينزلونها هرباً من سماء معادية. عند باب الملجأ يهدئ الوالد أطفاله بصراخ اعلى من صرخاتهم.
وفي الملجأ يتعرف الخليط العجيب الذي يسكن البناية على بعضه: أم تمزق ثيابها خوفاً على الأطفال الذين لم يأتوا بعد من المدرسة، عروس نزلت بشبشب العرس وعطوره وقد ودعت زوجها إلى خطوط التماس، النحات الذي فاضت شقته الصغيرة فخرجت تماثيله إلى السلالم، السكير الأعزب الذي يبقي باب شقته مفتوحاً ويدعو كل صاعد لأن يتفضل ويشاركه كأساً، موظفة شركة الطيران الأنيقة التي تنازلت عن غرورها وتركت الكمبيوتر وجلست ممدودة على السلم.
هنا يندم الكل لأنهم لم يتعارفوا من قبل وتحصنوا وراء جدران من الكبرياء. لقد شف الخوف أرواحهم حتى أن موظفة الطيران فتحت علبتها الذهبية «have a cigarette» ثم بالعربية: «هل سنموت؟»... في لحظات الخطر يتواضع الناس ويستصغرون معارفهم ويتمسكون بأي تطمين من الآخرين. يدرون أن الموت فوق هذا السقف الهش أكبر بكثير من معارفهم الساذجة، لذلك يصدقون أي ساذج يعطيهم شيئاً من قواعد الدفاع، و يلتصقون ببعضهم كلما ازداد دويّ الانفجارات، وترمش جفونهم...يتعبون من خـوفـهـم و يصلون إلى يقين ما بأن خطر الموت يقصد فقط أناس العالم العلوي المجبولين على الخطر والمغامرات. أما هنا فيمكنهم أن يتألفوا مع حيز الحياة الخانق الضيق هذا حتى الأبد، شرط أن يبقوا أحياء. ويعللون أنفسهم بأن المقاتلين فوق لا بد وأن يتعبوا يوماً من قتل بعضهم ويتفق الأحياء على حل... أنذاك سيكون حد لكل هذا العذاب... أعجب كيف يستطيع هاملت «أن يحصر في قشرة جوز و يرى مع ذلك الرحاب جميعاً، فقد أغلق الملجأ جدرانه على مخيلتي حتى كدت أنسى إمكانية وجود ساحة مشمسة وحقول ممتدة ولون أصفر أو أبيض، وأصبح البحر مجرد فرضية عصيّة على التصور. فالشيء المؤكد الوحيد هو هذا القبو بجدرانه الاسمنتية القاسية وهذا الكدس البشري الذي يتنفس ويتحدث بلا يقين. أضيق بهذا القبر والخوف الذي لا يولد غير الخوف، فأخرج نافراً إلى عالم الوضوح مقنعاً نفسي بأن الموت يسير جداً، وله سرعة الرصاصة التي قد لا تسمح حتى بكلمة: أخ!