اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > دعوة المعماريين العالميين إلى بغداد في خمسينيات القرن الماضي

دعوة المعماريين العالميين إلى بغداد في خمسينيات القرن الماضي

نشر في: 1 نوفمبر, 2023: 09:29 م

بلقيس شرارة

كانت مدينة بغداد تعد حاضرة علمية من الطراز الأول على امتداد العصور التأريخية، التي نشأت وتطورت فيها. وفي خمسينيات القرن الماضي، كانت بغداد منفتحة على العالم، والجميع يعيش في نوع من التفائل، والنظرة إلى التقدم وبناء البلد على أسس حديثة في جميع المجالات، حتى إن مطار بغداد كان من المطارات المهمة، حيث كانت الطائرات القادمة من لندن تتزود بالوقود في بغداد قبل الاستمرار في السفر إلى استراليا وغيرها من الدول.

وفي عام 1954 أقيم المعرض البريطاني، وتم بعد سنتين تأسيس محطة تلفزيون في بغداد، وهنالك صلة بين التلفزيون والثقافة، ولم يكن التلفزيون معروفاً في بغداد قبل ذلك، فتعرف الناس على الجهاز في المعرض البريطاني، وكان العراق أول دولة استعملت التلفزيون في الشرق الأوسط، وافتتحت المحطة بصورة رسمية في عام 1956، وقد بيعت اجهزة التلفزيون التي كانت معروضة في المعرض البريطاني.

كما كان العراق من البلدان العربية المتقدمة بالنسبة لتطوير الشعر الكلاسيكي وإيجاد مجموعة من الشعراء الذين بدؤا حركة الشعر الحر، ونفس الشيء ينطبق على الرسم والنحت، بعد عودة الفنانين العراقيين الذين درسوا الفن في روما وباريس ولندن، واسسوا جماعة الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث.

كما عاد في تلك الفترة إلى بغداد عدد من المعماريين العراقيين الشباب، الذين درسوا في اوربا والولايات المتحدة، كانوا مجموعة من الشباب المتحسمين والمـتاثرين في دراستهم بمدرسة "الباوهاوس/ Bauhaus" وهي مدرسة للفن والعمارة، تأسست في المانيا بين 1919-1933، من قبل رسامين ونحاتين ومعماريين ومصممين بارزين. وذكر رفعة: "وأصبحت الباوهاوس اشبه بمختبر يهدف الى تحقيق انسجام وتجارب بين العمارة والفن ودقة الحرفة والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي، وغيرها من الفنون، وتجّمع فيها معماريون وفنانون قادوا تجارب وممارسات متقدمة في توليد اشكال معمارية وتصنيعية متوافقة مع المكننة، ولا تزال تلك التجارب تؤلف قاعدة الحداثة". وجمعوا بين التنظير والتطبيق العملي. واعتبرت هذه المدرسة من أكثر تيارات الفن الحديث تأثيراً على الهندسة والتصميم المعماري المعاصر في بداية القرن العشرين. وقام في تأسيسها المعمار والتر غروبيوس في عام 1919 في فايمار في ألمانيا، واستمرت حتى عام 1933.

فاتفق أنذاك كل من قحطان عوني ورفعة الجادرجي، على تهيأة قائمة باسماء المعماريين الجيدين في العالم، وتقديمها إلى وزير الإعمار آنذاك، نديم الباججي، فحصلا على اللقاء به مساء في داره، وبحثا الموضوع، وقالا له، إن هنالك معماريون جيدون في العالم، وإن المعماريين الإنكليز الموجودين في العراق، ليسوا من المعماريين المفضلين. وهكذا بدأ المعماريون العالميون بتلبية دعوة الحكومة العراقية. أما المعماريان دوكسيادس وكروبيوس، فقد استدعيا من قبل الحكومة العراقية قبل ذلك. إذ كانت معظم الأبنية الحكومية تُصمم من قبل معماريين بريطانيين مثل كوبر وولسن اللذين قاما في تصميم وبناء عدد من الأبنية الحكومية.

فدعي المعمار الإيطالي (جيوفاني بونتي/ Giovanni Ponti) الذي صمم بناية وزارة التخطيط، وكان بونتي قد صمم قبلها عمارته المشهورة (بِرّلي/Pirelli) في ميلان التي كانت من اوائل الأبنية التي احتوت على 32 طابقاً في اوربا واعتبرت آنذاك من اجمل ناطحات السحاب في اوربا.

و مرّ في تلك المدة ببغداد المعمار الدنماركي (يورن أوتسن/ Jorn Utzen)، وقضى يومين في بغداد، وسأل عن رفعة إذ كان قد نُشر له (مشروع الأوبرا) التي صممها لسدني كما نُشر لرفعة مشروع (بناية الأوقاف) في نفس المجلة الفرنسية (Architecture Aujourd,hui 1956)، ودَعينا الفنانين والمعماريين العراقيين للقاء به، كان أوتسن صاحب نكتة، ويضحك عندما يتحدث عن جهل بعض المسؤولين في العاصمة سدني، الذين طلبوا منه دعوة اوركسترا لائقة بافتتاح الأوبرا التي كانت يومها تحت التنفيذ. ولم يكن آنذاك بسدني أوركسترا جيدة بمستوى الفرق الموسيقية العالمية التي اشتهرت بها العواصم الأوربية.

وفي نفس العام، زار بغداد المعمار والآثاري الفرنسي (مايكل إيكوشارد/ Michel Echochad) الذي كان قد كلف آنذاك بتخطيط العاصمة دمشق في سوريا، وزار معنا طاق كسرى.

كما كلف المعمار الأمريكي (فرنك لويد رايت Frank Lloyd Wright) في تصميم الأوبرا في بغداد. كان فرنك لويد قد ناهز السابعة والثمانين من العمر. وقضى بضعة أيام في بغداد، ويعتقد: (ان مهمة المعمار ان يساعد الناس على أن يتفهموا كيف يمكن لهم ان يجعلوا الحياة اكثر جمالاً، ويصبح العالم أحسن للعيش به، وبذلك يعطي سبباً، وايقاعاً لمعنى الحياة).

وذكر رفعة بمناسبة زيارة فرنك لويد رايت، اقيم في بغداد معرض فني للعمارة والفنون التشكلية، وعندما وصل أعمال محمد مكية نظر إليها نظرة خاطفة وقال:" إن العمارة قضية خاسرة"، لكنه لما وصل إلى أعمال رفعة الجادرجي، قال:"أنا أكره تأثير كوربوزيية". فقد تمرد على العمارة الكلاسيكية وزخارفها التقليدية، والمبنى بالنسبة له يجب ان يتطور من محيطه الطبيعي.

ثم دُعي فرنك لويد رايت في تلك الليلة من قبل المعمار نزار علي جودت وزوجته ألن، وقدم له العشاء في السادسة مساء، وجاء المعماريون للتعرف عليه، والحديث معه، وانطلق في تلك الأمسية في الحديث، وأطلق على المعماريين العراقيين (أولاد/Boys)، لأن جميعهم كانوا شباباً، عادوا إلى بغداد بعد أن أنهوا دراستهم. وفي اليوم التالي دعي في المساء على العشاء من قبل المعماري قحطان عوني، وقُدم له السمك المسكوف، وهي الأكلة العراقية الشهيرة التي تعود إلى مئات السنين. وعندما وصل السمك في الساعة العاشرة ليلاً، قطعت له قطعة مع عظامها وقُدّمت له بصحن، ولم يستطع أن يأكل شيئاً، لأنه غير معتاد على هذا النوع من الطعام. عاد إلى الولايات المتحدة، لكنه صمم مركزاً ثقافياً، واوبرا على أن تبنى في جزيرة وسط نهر دجلة وهي جزيرة أم الخنازير، ولكن لم تتحق احلام فرنك لويد رايت، ولم تبنى الأوبرا بل ظلت تخطيطات على الورق، حيث توقفت معظم المشاريع بعد ثورة 14 تموز، وتوفي بعدها بعام.

أما المعمار (ولتر كروبيس/Walter Gropius)، فقد دعي لتصميم جامعة بغداد، وقد بني من الجامعة الإدارة فقط آنذاك، ويعتبر كروبيس احد اهم رواد الهندسة المعمارية الحديثة، كان له تأثير كبير على الاتجاه المعماري آنذاك. وعندما زار بغداد عام 1962، دعيناه لكي يلتقي ويتعرف على الفنانين والمعماريين العراقيين. وكانت جامعة بغداد من اهم ما صممه في السنوات الأخيرة من حياته.

ثم كُلف المعمار الفرنسي (لكربوزيية/ Le Corbusier) في تصميم ملعب دولي لمدينة بغداد، الذي كان قد باشر بوضع تصاميمه قبل ثورة 14 تموز، وتوقف المشروع بعد الثورة، ولم يكن كربوزيية مرتاح لوقف دفع أجوره.

وذهب رفعة إلى باريس، والتقى به عام 1959، ودار الحديث بينهما، قال له: "عندما ترسلون الجمال إلى الصحراء آلا تسقونها الماء؟ فاجاب رفعة: بلى، نسقيها كثيراً من الماء، قال له: فكيف تتوقعون أن أكمل عملي بدون أجور؟ هل ستسقيني حكومتك؟ عندكم ماء أسود، اعطوني جزءا منه لأتمكن من أن استمر في عملي". ولم يتم بناء إلا بناية قاعة الالعاب الداخلية من التصميم الذي قدمه كوربوزيية.

كما قام المعمار ألاسباني (جوزيف لويس سيرت/Josep Lluis Sert)، في تلك الفترة في تصميم السفارة الأمريكية في بغداد عام 1955.

أما المعمار الفلندي (آلفار آلتو/ Alvar Aalto) فقد كُلف بتصميم بناية البريد المركزي والمتحف. والتي جميعها لم تنفذ، بعد ثورة 14 تموز، حيث توقفت معظم المشاريع، ولم ينفذ إلا بضعة مشاريع منها للأسف. وهؤلاء المعمارييون كانوا يمثلون الطليعة في العالم، بتأثيرهم على التصاميم الحديثة والنقلة المهمة التي احدثوها في العمارة. وبعضهم خلفوا بصماتهم على العاصمة بغداد.

لكن استمرت مؤسسة (دوكسياديس/ Doxiadis) في تنفيذ اعمال تخطيط و بناء الدور التي تعاقدت معها الحكومة العراقية ومجلس الإعمار، لبناء منازل لأهل الدخل المحدود. وبعد ثورة اربعة عشر تموز توقفت الأعمال، وعيّن رفعة في تلك الفترة مدير الإسكان العام، واجتمع بوزير التخطيط لبحث الموضوع، وكلُّف رفعة في أن يذهب لأثينا واللقاء بدوكسيادس. والتقى بدوكسيادس، وبحث رفعة معه الاستمرار في العمل، إذ حاول دوكسيادس في العراق إيجاد الحلول الملائمة لإسكان الطبقة دون الوسطى، و" كانت الدار عند دوكسيادس لذوي الدخل الواطئ في المدينة أو في القرية وهو ليس مجرد تصغير الدار الكبيرة حجماً بل هي إعادة النظر في المتطلبات الحقيقية للشاغلين من ذوي الدخل المنخفض والذين لهم تطلعاتهم وطموحاتهم في معيشتهم المرتبطة بمرحلة تطورها. لذا يأتي تصميم الدار حصيلة دراسة لأسلوب هذه المعيشة لا مجرد تصغير الحجم لدار معدة في الأصل لذوي الدخول العليا". "الأخيضر واللقصر البلوري، رفعة الجادرجي، رياض الريس للكتب والنشر، 1991).

وبذلك استطاع دوكسيادس بسبب قدرته الفائقة على استحداث المنظومات وترتيبها وكيفية استخدامها في البحث الميداني والمختبري، وان يكتشف اكثر من غيره حقيقة المطلب الاجتماعي في العراق. ودعانا إلى داره التي كانت تطل على مبنى الأكروبوليس، وهو أقدم وأجمل بناء بني قبل أكثر من ألفي عام.

ثم حدث انقلاب 1963، واعلن عدم التجول في العراق وهيمن الصمت والخوف المطبق في شوارع وأزقة بغداد، وشعرنا بالجو الموشى بغيوم الرعب عندما القي القبض على عدد كبير من اليساريين والشيوعيين، وأودع البعض منهم في النادي الألومبي الذي تحول إلى معتقل كبير للتعذيب.

لكن بالرغم من الأجواء المكفهرة التي مرّت على العراق، فقد زار بغداد الفنان الأسترالي (سيدني نولان/ Sidney Nolan) في طريق عودته من لندن بعد أن أقام معرضاً لأعماله. ويعتبر من اهم فناني استراليا، وأحد قادة الفن الحديث في القرن العشرين. بالإضافة إلى الرسم، فقد قام بتصميم المسرح وملابس البالية والأوبرا التي عرضت في لندن واستراليا.

وبعد عودة حزب البعث إلى الحكم خلال انقلاب 1968، الذي بدأ بالعنف والقتل وتعليق المشانق في الساحات العامة، فاسدل جدار الرعب ستائره ثانية، وبدأت العقول في الهجرة، فشملت الأطباء والمهندسيين والمعماريين. واستمرت هذه الحالة لسنين، كما وضع خيرة ابناء البلد في السجون، وكان من بينهم المعمار رفعة الجادرجي، وحكم عليه بالسجن المؤبد. لكنه قضى عاماً ونصف فقط، واقتيد بملابس السجن إلى القصر الجمهوري، وطُلب منه دراسة وتصميم بعض المشاريع في بغداد.

إذ كان صدام يفكر في أن يجعل من بغداد مدينة لها أهمية، على غرار ما كانت عليه قبل عقود، وذلك من خلال مؤتمر عدم الأنحياز الذي كان سيعقد في بغداد عام 1982. اذ كانت بغداد بفخر في طليعة المدن التي اتخذت الحركة المعمارية الحديثة لبناء مدينة افضل بعد الحرب العالمية الثانية، واصبحت بغداد بحق محط انظار المعماريين العالميين آنذاك.

ووجد رفعة ان عليه أن يدعو المعماريين العالميين ليشاركوا في إعادة بناء بغداد، فدعا معماريين من اليابان، والولايات المتحدة من بينهم (روبرت فنتوري/ Robert Venturi)، الذي كتب كتاب (التناقض والتعقيد/ Complexity and Contradiction) واسمه مرتبط بحركة ما "بعد الحداثة"، من خلال كتاباته وابنيته. ومؤسسة (تاك/ TAC) التي اسسها ولتر كروبيس، بعد أن هاجر إلى الولايات المتحدة، كما دعى (آرثر أركسن/Arthur Erickson) الذي كان من اهم المعماريين في كندا، واهتم في تصاميمه بالعلاقة بين المكان والطبيعة، وقد صمم مجمع سكني في بغداد، لكن التصميم تم التعديل عليه ولم يطبق حسب تصميم أركسن. كما دعي المعمار الاسباني (ريكاردو بوفيل/ Ricardo Bofill)، وغيرهم.

و كذلك كلف رفعة بعض مكاتب المعماريين العراقيين منهم مكتب المعمار معاذ الآلوسي، الذي أصبح مسؤولاً عن تطوير شارع حيفا، حيث هدمت معظم الأبنية القديمة فيه مع الحفاض على بعض الدور ذات القيمة التراثية.

كان معظم هؤلاء المعماريين يلتقون في دارنا في المساء يتحدثون في مواضيع مختلفة، ومنها المشاريع التي كلفوا في تصميمها. واستمرت الحال لعامين، عندما اندلعت الحرب بين العراق و ايران، و التي استمرت ثمانية اعوام، فتوقفت معظم المشاريع التي ظل معظمها تصاميم على الورق، ولم ينفذ منها إلا القليل، كما ان مؤتمر عدم انحياز عقد في مدينة نيو دلهي في الهند بدل العراق، وكانت الحروب التي بدأها صدام نهاية إلى ما كانت ترنو إليه بغداد من التقدم في جميع المجالات بما فيها العمارة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram