طالب عبد العزيز
لا احبُّ التماهي مع المظاهر الحديثة، ولست منسجماً مع ما يدور حولي، هناك هُوى عميقة تفصلني، مع يقيني بانَّ الكون يتجدد باستمرار، والتغيير سنّة في الاولين، وفي الحياة أيضاً، التي تمضي الى غير مستقر لها، حتى ابد الآبدين، لكنني متعلق بما اكتسبت،
ودأبت على تلقيه، ومؤاخاته، وهو زاد روحي، ولا فضاء لي خارجه، فأنا أمين على ما الفته/ وفتنت به ذات يوم، وأردد بيت المتنبي: "خلقتُ ألوفاً لو عدتُ الى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا" ربما لأنَّ حياتي مازالت تتجدد تبعاً لمواسم الحرث والغرس والجني، لست وحدي في الكويكب الغريب هذا، هناك العشرات ممن ظلَّ على قيد الحياة الى اليوم، في البصرة وابي الخصيب وفي مدن أخر ربما.
أكره أن تتسق الايام والاسابيع والشهور بحسب ما مدوّن في الروزنامة، التي خلفي، أو بحسب ما يظهر في شاشة التلفون، وأحَبُّ التوقيتات عندي تلك التي تعتمد آذان الصلاة، فمثلاً أقول لصديقي: أراك بعد أذان العصر في المقهى، أو قبل صلاة الظهر، أو ليلة الجمعة. . بين الفاظ مثل هذه أجدني متخففاً من قيد الوقت، منسجماً مع أفعال لا تقل أهميةً عن اللقاء نفسه. أسمع النساء وهنَّ يعددنَّ أشهر حمل كنّاتهن قائلات بالاشهر القمرية، فهنَّ يقلنَّ: " رمضان و فِطْر (شوّال) ويقلنَّ: عيد الزغير(عيد الفطر) وعيد الجبير (عيد الاضحى)والمحرم بالعاشور، ولا يذكرنَّ شهر صفر إلا بآخره، فيقلن (طلوع صفر) وقبل انتصاف النهار عندهنَّ هو الضحى العالي، وقبيل المساء هو مْسَيّانْ، أما السنوات فهي بتوقيت ما قبل وبعد الفيضان.
بضياع التوقيات هذه نكون قد خسرنا المواسم، فالحياة عن هؤلاء الناس تمضي بحسب الحاجات والمناسبات، ولعل أطرف ما يذكره الناس عن توقيت صلاة الفجر قولهم (ويْ طكة البريج) ذلك لأنَّ الاباريق كانت من النحاس، وتصدر صوتاً، والناس بلا مغاسل وحنفيات، فالابريق أداة الوضوء، وما أجمل توقيتهم بعد مغيب الشمس بساعة او ساعتين، فهم يقولون بعد ما(أيّستْ المختاضه) والمختاضه هي الزوجة التي تركت بيت زوجها غاضبة منه، الى بيت أبيها، لكنْ، لم يأت أحدٌ لإرضائها، فقد حلَّ وقت النوم، فهي يائسة من مجيء أحد. وأجملها توقيت مواسم الحرث والغرس والجني، والتمر هو العلامة الكبرى، فللرياح وهي تهبُّ وتخبُّ اسماءٌ، وللشمس والبرد والربيع والخريف اسماء، وللمطر والصيد والوفاء والهجر والحب والغضب وو اسماء كلها تجري بحسب ما يغرسون ويجنون ويفرحون ويحزنون.
ليس هناك حرٌّ و بردٌ كبرد وحرِّ السنوات تلك، فقد يهلك بالبرد من كان جمر موقده من الكرب، لأنَّ الكرب، مثل صحبة العرب عندهم، لا يدوم طويلاً، فهو يخمد في موقده بعد ساعة من إيقاده، لا أكثر، لكنَّ من كان جمر موقده جذوع فحل وأغصان توت فهو أوفرهم حظاً وأطولهم ليلاً، ومن كان خصُّ بيته بأربع هطر (إطارات) فقد أمِنَهُ، ومن حصّنَ حطبه عن المطر فقد ضمن الخبز وكوب الحليب والبيض في صباحه، ومن أحرقت الشمس وجهه نائماً فقد خسر عمله وجاع، ومن لم يغلق باب بيت أبقاره وقن دجاجه ونام عنها فلا يلقي باللائمة على ذئب دخله، ومن سبقهُ الجزرُ وانحسر عن سدة شاخته الماء فقد يبس ما زرع وذبل ما غرس وهكذا. ذات يوم سمعتُ أحدهم يسمي المسحاة (عصّاة السلّ) فقلتُ له: كيف؟ فقال: هي تمسح البطن، فصاحبها جائع ما حملها الى بستانه.