اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > إدوارد سعيد والقضية الفلسطينية

إدوارد سعيد والقضية الفلسطينية

نشر في: 5 نوفمبر, 2023: 11:35 م

د. نادية هناوي

لم تكن الصهيونية يوما ما رحيمة أو طيبة كي نستغرب ما يجري اليوم في قطاع غزة من همجية وحشية لا نظير لها في التاريخ البشري القديم والحديث،

فهذا هو ديدنها منذ أن نشأت كيانا هو عبارة عن عملة من عملات الولايات المتحدة تراهن عليه بحسب مصالحها البراغماتية وبما يخدم توجهاتها في المنطقة، وما أن تنتهي خدمات هذا الكيان حتى ترفع تلك الولايات يديها عنه وعندها سيتلاشى بسرعة وفجأة.

وصحيح أن نشأة الحركة الصهيونية حصلت بمباركة بريطانية عام 1914 ووعد مشؤوم عام 1917 لكن صهاينة نيويورك البراغماتيين هم الذين قادوا حلقات نمو هذه الحركة لتتحول إلى كيان. وبسبب ذلك أظهر كبار الضباط الانجليز ومنهم فايتسمان معاداتهم للصهاينة ووصفوهم بالبلاشفة الدخلاء الذين جاءوا لطرد السكان العرب من أراضيهم ولجعل حكم البريطانيين فيها مستحيلا، وبسبب ذلك تمسك بيرتلو بخط سايكس بيكو ولم يعط الصهاينة حق إقامة دولة على حساب فلسطين.

وأكثر من يدرك عقلية الولايات المتحدة البراغماتية على وجه اليقين هم المفكرون والباحثون والدارسون غير الغربيين ومنهم العرب الذين تلقوا تعليمهم في مؤسسات وجامعات أمريكية أو من الذين ساهموا في داينمو التفكير البراغماتي الأمريكي وكانوا قطبا فاعلا في مرحلة ما من مراحل تطوره. فأما العرب الذين تلقوا تعليمهم في أمريكا فيعلمون فاعلية هذا الفكر الذي لا يسمح لهم بدراسة موضوعات تتعلق بتاريخ الولايات المتحدة وسياساتها ومجتمعها ومشكلاتها، وإنما هم موجهون لدراسة تاريخ بلدانهم وسياساتها ومجتمعاتها دراسات مقارنة او سياقية أو ثقافية. أما العرب الذين استطاعوا أن يكونوا داينموات فكرية ضمن الحاضنة الأمريكية، فلهم باعهم في هذا الفكر الذي يجعلهم على اطلاع دقيق ومعرفة عميقة بحقيقة الوضع السياسي والعسكري والاقتصادي للولايات المتحدة.

ومثالنا المفكر ادوارد سعيد الذي برز اسمه في سبعينيات القرن العشرين باحثا أمريكيا بارعا في مسائل ما بعد الحداثة وأولها مسالة الاستشراق، لكن ذلك تغير خلال عقد الثمانينيات. واتضح هذا التغير بشكل جلي مطلع عقد التسعينيات حين صار سعيد يجاهر بفلسطينيته، ويعبر عن نفسه مفكرا فلسطينيا، ويتقصد استعمال ضمير الجماعة( نا) في حديثه عن الفلسطينيين كقوله( إن تصورنا لأنفسنا كفلسطينيين يختلف عن تصور الأمريكيين لنا) لاسيما بعد أن عاد إلى فلسطين التي تركها عام 1947 وصار عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني. وانبرى في أكثر كتاباته متصديا للإمبريالية ومهتما بشكل صميم بثنائية الثقافة والمثقف، متخذا مسلك المثقف المعارض وشبه الثائر ضد الولايات المتحدة ومن يمثلها من الغرب والأنظمة العربية. ولهذا أخذت بعض الأوساط الغربية تتهمه بمعاداة السامية والصهيونية وتصفه بالنازي وبروفيسور الإرهاب كونه كشف شرور الامبريالية العالمية وسياستها في التوسع والاستيطان وتتبع تاريخ نموها في الفكر الفلسفي والكتابة الروائية بدءا من القرن الثامن عشر.

ولا شك في أن وراء هذا التغير شجاعة كبيرة من لدن مفكر كان قطبا ما بعد حداثي يحسب على العقلية الأمريكية ثم تحوّل إلى ند لهذه العقلية يسعى إلى تعريتها وفضح لا عقلانية دوائرها الامبريالية وفي مقدمتها الصهيونية. وراح يدافع عن القضية الفلسطينية كما كان على الدوام مشخصا عقم الأساليب المستخدمة في تعريف الغربيين بهذه القضية.

بيد أن هذا لا ينفي نزوع ادوارد سعيد البراغماتي الذي جعل دعواته وحلوله تتضارب أحيانا سواء حين فلسف الفكر الاستشراقي الاوروبي او حين فلسف الصراع العربي الصهيوني، لكنه لم ير في ذلك تضاربا أو خذلانا، ودافع عن ذلك بالقول:( انا اتحدث باعتباري فردا من هذه الطبقة المفكرة في البلاد وسياسة الخارجية للدولة وأتحدث أيضا بخجل من يعرف عمق الخيانة الفكرية التي تمت. فهذه بحق خيانة معاصرة للعلماء على نطاق واسع لقد أصبح معظم المثقفين التقليديين تقنوقراطيين وظيفيين يهتمون بحياكة اجواء من الغموض الايديولوجي وتحسين اوضاعهم الذاتية اكثر من اهتمامهم بالحقيقة ) (كتابه أوسلو 2 دار المستقبل العربي 1995، ص22 )

ومن ذلك ايضا انه ناهض عملية السلام واتفاقية أوسلو ووصفها بأنها( سلام أمريكي) وكتب مقالات باللغة العربية ونشرها في صحف مهمة كالأهرام المصرية ما بين 1993ـ1994 وفيها انتقد منظمة التحرير وياسر عرفات( ان أحدا حتى الآن لا يجرؤ على الجهر بالقول بان السلطة الفلسطينية في عمقها تتسم ببعض سمات المافيا حيث يقوم عديد من رجال السلطة بعقد مختلف أنواع الصفقات التي تعود بالنفع على الحلقة الضيقة من رجال عرفات ( خبرائه) (كتابه، ص7) في حين تبنى من جانب معاكس فكرة التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب، والسبب برأيه وجود(تضافر ديمغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين على نحو يتعذر تغييره وان الإسرائيليين يقومون بتشغيل الفلسطينيين في بناء وتوسيع مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة وان هناك جيلا شابا من عرب إسرائيل يقودهم عزمي بشارة يمثلون أقلية مضطهدة في الكنيست الصهيوني( الثقافة والمقاومة، ص20 ) ولذلك نقم القوميون العرب على ادوارد سعيد كما نقمت عليه السلطة/ المنظمة وهو القائل( عرفات نجح عن طريق الترغيب والابتزاز في اقناع الكثيرين في الضفة الغربية وغزة وكذلك خارجهما بانه الخيار الوحيد ولذا لا بد من مساندته دون قيد أو شرط) اوسلو 2، ص14.

وانتقد ايضا سياسات الولايات المتحدة وكشف عن مسائل هي جديرة اليوم بأن تدرس.

ويعد كتابه( القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي) الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1980 بادرة أولى على هذا الطريق الذي ستتضح ملامحه أكثر في عقد التسعينيات، وفي هذا الكتاب أعلن سعيد( أن الدولة الأمريكية هي في جوهرها دولة امبريالية لا يماثل سجلها في العنف والدمار سجل أية دولة أخرى في التاريخ البشري وتلك مسالة لا جدال فيها) ص8 ولفت أنظار العرب إلى ان(هذا التقدير لأهمية أمريكا كثيرا ما يتخذ شكل رد فعل مبالغ فيها تنبع في اعتقادي من افتقاد التحليل والدراسة الجادين لما آل إليه حال المجتمع الأمريكي) ص5 اما كيف يكون التحليل الجاد فمن خلال( طرح مسالة فلسطين ضمن اطار ما يقوم به اللوبي العربي أو اللوبي الصهيوني بل ضمن الاطار الاهم والاكثر خطورة وهو المجتمع الامريكي) ص6

ولعل المسالة الجديرة بان تدرس اليوم هي تقسيمه المجتمع الامريكي الى مجتمع سياسي ومجتمع مدني وتأكيده أن هذا الاخير له قوة تنبع من مؤسساته الصناعية، وأن من الواجب التوجه بالقضية الفلسطينية إليه. وضرب سعيد امثلة على قوة المجتمع المدني، من ذلك مثلا ما جرى( في اواخر الستينيات واوائل السبعينيات حين قامت الجامعات بإثارة المجتمع المدني الامريكي ضد المجتمع السياسي الامريكي كما كان هذا المجتمع الاخير يعبر عن نفسه في فيتنام فانطلاقا من ذلك علينا اذن ان نمتلك القدرة على تحليل نقاط التوتر والانسجام بين الدولة الامريكية والمجتمع المدني الامريكي) ص8

وما صارت الصهيونية بهذه القوة الا بما اخترعه المجتمع السياسي من نظريات وما جرى من تعاون طوعي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي الامريكي، فكان أن طرح وزير الخارجية الامريكية عام 1987 نظرية تقول إن ( اقامة دولة فلسطينية مستقلة تكن مشاعر تحررية وحدوية في هذه المنطقة المبتورة لن تكون حلا واقعيا أو دائما) ص13ـ14 واخترع كيسنجر نظرية( الرجل المجنون) الحربية عام 1970 وهددت الولايات المتحدة الأمريكية بالتصرف غير العقلاني في تطبيقها ضد خصومها، ووضعت النظرية موضع التطبيق في تعاملها الوحشي مع الشعب الفلسطيني، فزودت الكيان الصهيوني( بكل دبابة وطائرة وصاروخ تستخدمه ضد الفلسطينيين انطلاقا من الالتزام الذي لا رجوع عنه بأمن اسرائيل وقوتها وصالحها) ص12

ولأن حياة المجتمع الامريكي تقوم على قاعدة براغماتية، صار التعاون بين المجتمعين السياسي والمدني خطيرا. وكانت محصلته اتفاقية كامب ديفيد التي وُقِّعت بغياب الفلسطينيين الذين هم أولى بالمشورة في أية مداولات تريد تقرير مصيرهم. وعد ادوارد سعيد هذه الاتفاقية نموذجا مثاليا للهروب من التاريخ واعتداء على الوجود الفلسطيني واعتداء على التاريخ نفسه وتزييفا مضحكا لتاريخ فلسطين مؤكدا أن الإعلام الامريكي طبق هذا الامر بنظريات بافلوف السلوكية.

وكانت استشرافات ادوارد سعيد لمستقبل تطبيق هذه الاتفاقية خطيرة، وهو القائل:( يرتجف المرء عندما يفكر فيما يكمن خلف التهديدات الامريكية الاخيرة بالتدخل عسكريا في منطقة الخليج وتقف الولايات المتحدة اليوم في اسيا خلف مجموعة من الانظمة القمعية العميلة وتدعمها من دون قيد أو شرط تقريبا: ومن بين هذه الانظمة كوريا الجنوبية والفلبين واندونيسيا واسرائيل )ص10 ومن الرؤى التي بها استشرف ادوارد سعيد مستقبل تأييد المجتمع المدني للمجتمع السياسي في الولايات المتحدة :

1 ) ان حماة الصهيونية سيقعون في ازمة الديمقراطية بالتآمر على العالم الثالث وعداء الشرق والعرب والاسلام.

2 ) ان (ثقافة الاستشراق) ستجعل العرب مزودين للنفط أو ارهابيين متعطشين الى الدماء.

3 )ان سياسة الاستيطان ستتوسع في الارض الصحراوية وستخلق مؤسسات حديثة وتحل المشكلات التقنية بكفاءة وبصورة تثير الاعجاب وبحسب افضل التقاليد الغربية( كتابه: ص25)

4 ) ان الدفاع عن حق تقرير المصير الفلسطيني لن يكون على ارض الشرق الاوسط حسب، بل داخل الولايات المتحدة ايضا لتحريض المجتمع المدني ضد الصهيونية وافعالها الاجرامية.

أما كيف يمكن تغيير مستقبل دعم امريكا للصهاينة ؟ فيراه ادوارد سعيد ممكنا من خلال كسب ود المجتمع المدني الامريكي، ( الذي يجب ان نضع ثقتنا فيه في نهاية المطاف .. وان نكرس جهودنا السياسية والثقافية لمصلحة الكفاح الفلسطيني من اجل تقرير المصير.. التقارب مع المجتمع المدني يتطابق مع نشاطاتنا الموجهة ضد القمع والتقاليد المركزية التحررية التي ما تزال تعمل في قلب الثقافة الامريكية) ص25ـ26

وتبدو هذه الرؤى والاستشرافات عملية وبالإمكان دراستها بعمق من اجل بناء استراتيجية أو مشاريع جدية تبعدنا عن تهويلات الاعلام وانشائيات الصحافة وتجعلنا على طريق استعادة الحق العربي في فلسطين، فالولايات المتحدة ليست كما نراها بوجه واحد قبيح، بل هناك أمريكا اخرى يمثلها مجتمع مدني براغماتي ينطلق من رؤية عقلانية لمصالحه، وهو ما يحض ادوارد سعيد على كسب تأييده. وهو برأيه يقف( على أهبة الانتظار والتهيؤ للوقوف الى جانب الكفاح الفلسطيني من اجل تقرير المصير ولم لا؟ أليس هذا التقليد تقليدا مهتما ابتداء بالعدالة وحقوق الانسان ومعارض بشكل راسخ للتمييز العنصري والتدخل الاجنبي وشجاعا في استعداده للتعبير علنا ومن دون تحفظ عن مواقفه .. الاخلاص للضمير ولحرية الانسان الحقة التي يجسدها هذا التيار المحلي المعارض .. وستكون مخطئين اذا ما اعتقدنا ان الفضل في الاهتمام الامريكي بالقضية الفلسطينية يرجع الى مصرف تشيس ممانهاتن أو الى وزارة الدفاع) ص30.

بالطبع كان لإدوارد سعيد أن يحول افكاره إلى مشاريع لكنه وقتذاك لم يكن جزءا من الحاضنة الغربية، بل صار ضدها وإن بقي حاملا الفكر البراغماتي نفسه. واذا كان ادوارد سعيد قد اعتقد في العقد الثمانيني أن( اذا كان الاسرائيلي في أعيننا مضطهِدا، فان شعبه كان ضحية اضطهاد عنصري جماعي رهيب) فانه صار في التسعينيات يرى العكس من قبيل إشارته مثلا الى المعايير المزدوجة التي تتبعها الامم المتحدة فتجعل الصهاينة معفيين من أية تعويضات يدفعونها للفلسطينيين ابتداء من عام 1948 حتى الان في حين فرضت على العراق أن يدفع تعويضات احتلاله الكويت كاملة. عموما يبقى ادوارد سعيد من أكثر المفكرين ما بعد الحداثيين إحساسا بالاضطهاد والتعسف وهذا ما جعله جريئا في طروحاته سواء التي تبناها في سبعينيات القرن الماضي أو التي نادى بها في العقدين الثمانيني والتسعيني.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram