TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: في إنحراف الدلالة غير الشعري

قناطر: في إنحراف الدلالة غير الشعري

نشر في: 7 نوفمبر, 2023: 10:03 م

طالب عبد العزيز

كان وما زال الشعر انحرافاً لغوياً، ومحاولات مخلصة في إخراج اللغة من قاعدتها المعيارية الى فضاء الشعر الارحب، غير مخروج بها عن وظيفتها الدلالية، ويبدو أنَّ سعي الشعراء والمتكلمين من العارفين بسعتها وقدرتها على هضم وتمثل التطور الفلسفي،

وعمليات التأثير والتأثر قد انسحب الى لغة وأحاديث العامة، وبات أكثر من خيط في نسيج الحوار والفهم بينهم،وبما اسهم في توسعة فهم مصطلحات مثل الدال والمدلول، أو علم الدلالة (الابستيمولوجيا) بعامة، القائم والمرهون بالفلسفة والادب والنقد الادبي وإدخاله في مفاصل كثيرة داخل شبكة العلاقات الاجتماعية، حتى لم يعد الحديث به حكراً على نخبة بعينها، وهو تطور لافت حظيت الحياة به اليوم.

لندع الحديث عن الشعر بوصفه انحرافا لغوياً، ولندخل المتغير الحياتي بوصفه إنحرافاً دلالياً، فإذا كانت التفاحة رمزاً للخطيئة ذات يوم والحمامة البيضاء رمزاً للسلام والعصا رمزاً للشيخوخة والعجز وسواها ما تزال قائمة في فهم الابستيمولوجيا فأنَّ رمز الكلب في الوفاء والحراسة مثلاً سيكون قد تعرض لانحراف دلالي، بعد أنْ بات زينةً وصحبةً وتمظهراً حضارياً، هذا إن لم يكن سلعةً، ومثل ذلك سيكون النمر والاسد والوحشي من سكان الغابة، التي لم تعد تخيفنا كأطفال. بل أننا على عتبة القول بأنَّ المخنث والشاذ جنسياً لم يعد نقيصةً، ومثلبة في الرجولة، وكذلك سينصرف الحديث الى إرباك معتقدات ومسلمات كثيرة.

كان التمرُ في البيت دلالة الشبع مثلاً، وفقده دلالة الجوع، بناء على الحديث الشريف:" بيت ليس فيه تمر أهله جياع" وحتى وقت قريب، كنا نديم مخزوننا منه، ونشفق على الذين لا يملكونه، لكنَّ مصانع الكاكاو والشيكولاته ومعامل المعجنات افسدت علينا فهمنا ذاك، وزعزعت يقيننا بأفضل ما كنا نملك، ومثل هذه سينسحب حديثنا عن مثال الشؤوم، الغراب، الطائر العبقري اليوم، الذي فاق الطيور والحيوانات ذكاءً. ألا ننظر الى تصنيع حليب الاطفال الرضع بوصفه انحرافاً في مفهوم الامومة؟وفي قنينة المغذي التي تعطى للمريض في المستشفى انحرافاً في مفهوم الطعام؟ وهناك العشرات من الامثلة التي عطلت بعض الخصائص الوظيفية للحياة، والتي سنكون معها بحاجة الى عناصر جديدة، تساعدنا على اقامة مستوى جديد من العلاقات والانساق. أفكرُّ بالكريم الذي ما زال يعتقد بأنَّ الرماد الكثير دالة على الكرم، حيث لم يعد هناك رماد، وقد أفسد باعة القهوة بأصنافها في الشارع دلالة الضيافة والبذل على شيوخ العشائر.

في العام 2014 كنت مشاركاً في مهرجان شعري بفرنسا، ومصادفة نبهني صديقي الشاعر التونسي محمد الغزي الى يافطة، كتب عليها بيتٌ من قصيدتي التي سأقرأها. فوجئت باختيار البيت هذا:" لكنْ، جلَّ ما نريدهُ ألّا تنبحَ كلابنُا إلا ضيفا" ذلك لأنني رأيت النساء والرجال وهم يصطحبون كلابهم الى القاعات، يقبلونها ويحتضنونها.. لقد افسدوا عليَّ بيت القصيدة، فما دلالة نباحُ الكلب بفرنسا!! هي خارج قدوم الضيف بكل تاكيد، ثم تنبهت الى أنَّ دلالته كضيف تزحزت في الشرق كثيراً ايضاً، وهكذا رحتُ أفكرُ بالقصيدة هذه وبجملة ما كتبت. هناك تحدٍّ لغوي، نعم، لكنَّ الاخطر منه هو التحدي الحياتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram