اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > أنغوس فليتشر في كتابه الجديد : أنا أكتب قصةً ؛ إذن أنا افكر

أنغوس فليتشر في كتابه الجديد : أنا أكتب قصةً ؛ إذن أنا افكر

نشر في: 7 نوفمبر, 2023: 10:27 م

لطفية الدليمي

هل يمكن أن نتصوّر كائناً بشرياً غير حكّاء ؟ كيف سيكون شكل هذا الكائن ؟ ربما سيبدو كائناً غريباً قادماً من كوكب آخر.

ليس صعباً أن نحدس من غير مشقة ذهنية كبيرة أنّ فعالية الحكي اقترنت عضوياً مع نشوء اللغة وتطوّرها. لولا الحكي لكانت اللغة صناعة رمزية مستعصية على التداول اللحظي.

كلنا حكّاؤون بالضرورة ، وغالبيتنا نمارسُ فعالية سردية ، وقلّة قليلة منّا تشتغل في حقل الكتابة الادبية (القصصية والروائية أكثرها شيوعاً ). نميل جميعنا لترتيب خبراتنا وحكيها للآخرين في سياق قصصي ، وهذه الخصيصة القصصية ( أو الإخبار القصصي Storytelling ) تبدو مَعْلَماً تطوّرياً لدى الكائن البشري إقترن مع تطوّر اللغة وتعقيد دلالاتها الرمزية.

كلّما قرأتُ رواية جديدة في خضمّ هذا القصف الروائي المزدحم أتساءل وأعيدُ تساؤلي القديم : لماذا يعشق الكائن البشري فنون السرد وألوان الكتابة القصصية والروائية ؟ ومايزيدُ تساؤلي غرابة هو أنّ فريقاً متزايداً من العلماء على إختلاف مشاربهم المعرفية بات يلجأ أكثر فأكثر إلى فنون الكتابة الروائية ؟ ماذا يبتغي هؤلاء ؟ هل يسعون إلى المال ظنّاً منهم أنّ المبيعات الكبيرة من الرواية ستأتي لهم بمال وفير ليس بقدرتهم الوصول إليه عبر مهنتهم الاكاديمية أو البحثية الخالصة ؟ وقائع الحال تفنّدُ هذا الامر : ليس كلّ من كتب رواية صار مليونيراً. قلّة قليلة جداً إجتنت أموالاً وفيرة من كتابة الرواية. ثمّ أنّ هؤلاء العلماء لم يبدأوا كتابة الرواية في أوّل شروعهم بعملهم العلمي ؛ بل كتبوها بعد ذيوع أسمائهم ونشرهم لكتب في ميدان تخصصاتهم حقّقت لهم عوائد مالية كبرى. إنتهيتُ إلى قناعة مفادها أنّ الكتابة الروائية هي نمطٌ من أنماط التفكير الذي يثري الفعاليات البحثية ويدعمها ويشيعها بين أوسع حلقات الجمهور القارئ. إذا كان دي. إج. لورنس وصف الرواية بأنها ( كتاب الحياة المشرق ) فإنها في عصرنا هذا صارت ( بوّابة من بوّابات التفكير البشري الحاذق والدقيق والباعث على الدهشة والمتعة ).

***

نعيشُ الآن في عصرٍ أصبحت فيه الحقول المعرفية المتخصّصة أقرب إلى حفريات تنتمي لماضٍ مندثر ؛ وقد ترسّخت هذه الخصيصة المميزة لعصرنا بعد تعاظم أهمية دراسة الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية في صيغة نسقية شاملة. لم يكن الأدب ( الذي يمثل السرد هيكله الجوهري ) بعيداً عن هذه المقاربة المعرفية ؛ فقد طالته تغييرات بنيوية كبيرة في الجوانب التالية على الأقلّ : ماهي طبيعة الفعالية السردية التي تتشارك بها كلّ الكائنات البشرية ؟ كيف تعمل اللغة كوسيط سردي في تمرير الخبرات البشرية بين البشر ؟ وماالعلاقة بين التخييل البشري والإبداع الأدبي ؟ قد تبدو هذه الاسئلة مثل كثير سواها من الأسئلة التقليدية ؛ لكنّ الأمر سيختلف إذا مادرسنا هذه الأسئلة في سياق نسقي يجمع بين الإجابات المتوقّعة بعد إخضاعها للكشوفات غير المسبوقة في علم النفس الإدراكي Cognitive Psychology وعلوم البيولوجيا العصبية الدماغية BRAIN NEUROSCIENCE وكثير من الجبهات العلمية المتقدّمة.

البروفسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher ، أستاذ علم السرد والقصة بجامعة ولاية أوهايو ، أحد روّاد هذه المقاربة غير المسبوقة حول الأدب ، وهو عادة مايقدّمُ في مؤلفاته ومشروعه السردي في جامعة ولاية أوهايو رؤية جديدة فيما يخصُّ الفعالية السردية وقيمتها المؤثرة في إعادة صياغة العقل البشري بما يجعله قادراً على الارتقاء في تناول الموضوعات العلمية في سياق عملية تخادمية يغتذي فيها الأدب من الكشوفات العلمية ويعيد ضخّ المؤثرات المستجدّة في الفعالية السردية بما يعزز الارتقاء بالعلم في نمطٍ من التغذية الاسترجاعية الايجابية. يصفُ فليتشر الفعالية السردية بأنها نمطٌ من الميكانيزم العقلي الناشئ عن عملية تطور بيولوجي ، وهذه هي نقطة الشروع في كلّ مشروعه البحثي.

البروفسور فليتشر معروفٌ برؤاه غير التقليدية في الأدب والممارسة السردية ، ولعلّ معاينة عناوين بعض مؤلفاته تكشف لنا طبيعة هذه الرؤى :

- أعمال مدهشة : المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيراً في تأريخ الأدب ، 2021

- Wonderworks : The 25 Most Powerful Inventions in the History of Literature , 2021

-الخيال التوبولوجي : كرات، حافات، وجُزُر، 2016

- The Topological Imagination : Spheres , Edges , and Islands , 2016

- الزمان ، المكان ، والحركة في عصر شكسبير ، 2009

- Time , Space , and Motion in the Age of Shakespeare

- الاستعارة : نظرية النمط الرمزي ، 2012

- Allegory : A Theory of Symbolic Mode , 2012

أحدثُ كتب فليتشر كتاب عنوانه ( التفكير القصصي : العلم الجديد للذكاء السردي Storythinking : The New Science of Narrative Intelligence ). الكتاب ظهر حديثاً قبل بضعة شهور ( 2023 ) وهو من إصدارات جامعة كولومبيا الامريكية.

***

يقدّمُ المؤلف تلخيصاً حاذقاً لفكرته عن ( التفكير القصصي ) في مقدّمة الكتاب. يتساءل في الجملة الافتتاحية للمقدمة عن القصة : ماهي ؟ القناعة السائدة بفعل تواتر الخبرة والتعليم الاكاديمي أنّ القصة ( وكلّ فن سردي آخر ) هي واسطة لنقل الافكار وليس لإنتاجها ؛ ولمّا كانت القصة لاتنتج أفكاراً فهي بالنتيجة لاتساهم في تعظيم مناسيب الذكاء البشري. يمكن بالتأكيد للقصة أن تخترع حكايات تخييلية تقاربُ حدود الفنتازيا الجامحة؛ لكنّ الفنتازيا طبقاً للتفكير التقليدي السائد ليست مادة تعظّم الذكاء البشري ( الحقيقي ). الذكاء الحقيقي شيء تختصُّ به القدرة على التفكير بكيفية نقدية بعيداً عن الحكايات التخييلية والجموح الفنتازي. هذا مااعتادت المدارس تعليمه. التعليم المدرسي بشأن الفن القصصي والروائي يقوم على دعامتين : الاولى أنّ هذا الفن لاعلاقة له بالتفكير الحقيقي ، والثانية أنّ الشكل الفعّال للقصة هو القيمة الاخبارية لها بعيداً عن أية فعالية نقدية أو مساءلة فلسفية أو تفكّر بحثي. يكفي القصة والرواية أن تكون مصدراً مزوّداً للمتعة والدهشة فحسب.

تنطوي كلّ فعالية سردية على فعاليتين : التخييل Fiction ، والبلاغة Rhetoric. يكتب المؤلف في تقديمه : " لطالما حذّرني معلّميّ بأنّ الرواية ( التخييل ) Fiction شيء خطِر لأنّ الرواية هي الاسم الآخر للكذب. البلاغة أسوأ من التخييل لأنها كذبةٌ تسعى مااستطاعت لأن تكون مُشَرْعنة ومُسوّغة. برغم هذا أفاد معلّميّ بأنّ التخييل والبلاغة يمكن أن تكونا ذات تأثير طيّب ؛ فقد تعلّمنا رواية ما الطيبة والكياسة. قد تعلّمنا الرواية والقصة أي شيء باستثناء التفكير الحقيقي على النحو الذي يفعله العلم : هذا ماسعى المعلّمون والاوساط الادبية التقليدية لتكريسه..... ".

إندهش المؤلف لقدرة الحكي القصصي على جذب القارئ وإيقاعه في مصيدة الغواية الادبية ؛ فانطلق لبحث أصول ودوافع هذه الغواية. درس فليتشر علم النفس الادراكي لأربع سنوات أواخر تسعينيات القرن الماضي في جامعة ميشيغان ، ونال تدريباً معمّقاً في أحد مختبرات الفسلجة العصبية في ولاية ميشيغان ، ثمّ إنطلق لإكمال متطلّبات شهادة الدكتوراه في الادب بجامعة ييل ، ثمّ أتبع هذه الدراسات بدراسات إضافية لمابعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد حيث كان لقاؤه الاوّل مع النظرية السردية Narrative Theory.

يؤكّد المؤلف في فصول الكتاب العشرة على هذه الخصيصة : القصة أداةٌ للتفكير البشري. ربما ستساعدنا مطالعة عناوين هذه الفصول في تحسّس هواجس المؤلّف ومناطق اشتغالاته البحثية : القصة ، القصة والتفكير ، أصل القصّة ، لماذا تعلّمُ مدارسُنا المنطق بدلاً من القصة ؟ ، حدود المنطق ، الآلية الدماغية للتفكير القصصي ، الارتقاء بالتفكير القصصي ، التفكير القصصي من أجل التطوّر الشخصي، التفكير القصصي والتطوّر الاجتماعي ، كيف تجيب القصة على معنى الحياة ؟

يختم المؤلف كتابه بمجموعة أسئلة ( إفتراضية ) وإجابات لها ، وقبل هذه الاسئلة / الاجوبة قدّم خلاصا ت ثلاثاً مركّزة ومختصرة أجمل فيها فكرة الكتاب ورؤيته للتفكير القصصي :

1. إجتهد الفلاسفة تاريخياً في إختزال كلّ أشكال الذكاء إلى ذكاء رمزي بكلّ ألوانه السائدة : الاستقراء، الاستنتاج، التأويل ( التفسير ) ، التفكير النقدي ، الرياضيات ، الاحصاء ، صناعة القرار القائم على بيانات ، نظرية الاختيار العقلاني ،،،، وصولاً إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي ( الحاسوبي ).

2. الدماغ البشري لايكتفي بأشكال التفكير الرمزي المعزّز للذكاء القائم على البنى المنطقية ؛ بل يتعامل مع شكل آخر من الذكاء المخالف للذكاء المنطقي. ذاك هو الذكاء السردي. الذكاء السردي يعمل على الارتقاء بالتفكير المخالف للوقائع الحقيقية ( بمعنى يعزّز القدرة التخييلية ) وكلّ القدرات الاخرى التي ترفع مناسيب الابداع والقدرة على التكيّف والمقدرة على اتخاذ قرارات بناءً على بيانات محدودة في بيئات تفتقر إلى اليقينيات المعلوماتية والخبرات المسبقة.

3. الذكاء السردي هو ماكنة تشحذ العلوم التطبيقية : الطب ، الهندسة ، عالم الاعمال ، الابتكار التقني ، فضلاً على قدرتها على تعزيز قدرات المجالدة النفسية ومكافحة الوهن الذهني.

ينتهي المؤلف بخلاصة ثمينة رائعة بشأن قيمة الفن القصصي والروائي ( الادب بعامّة ) في حياتنا عندما يصرّحُ في أحد حواراته :

" ماأراه محفوراً في طبيعتنا التطوّرية هو حاجتنا إلى المعنى ، ورغبتنا الممضّة في سرد حكايات كاملة ذات بدايات ونهايات. عندما نحلُّ في هذا العالم فإننا لاننفكّ نفكّرُ ( إلى أين ستمضي حكاية وجودنا هذا ؟ ) لأنّ إضفاءنا قيمة على يومنا الحاضر يستوجبُ أن نكون قادرين على رؤية الغد والتفكّر في المستقبل.

نحنُ مسكونون بالطريقة ذاتها مع السؤال الوجودي ( من أين جاء هذا كله ؟ ). الحيوانات الأخرى ليست مسكونة بهذا التساؤل الجوهري ؛ لكنّ البشر لايستطيعون إزاحته جانباً عن عقولهم. ( ماكان أصلنا ؟ ) ، و ( من أين إنبثق الكون ؟ ) : هذه أسئلة محفورة هيكلياً في أدمغتنا. الأدب كان منذ البدء الطريقة الأكثر فاعلية وتأثيراً في الإجابة على هذه الاسئلة عبر الإبحار في قارب الزمن في الماضي والمستقبل وبكيفية تتوسّلُ مقاربات تخييلية. الأدب وسيلة مؤثرة للغاية في خلق حسّ الدهشة فينا – ذلك الحسّ الأكثر أساسية وقيمة جوهرية بين كلّ التجارب الروحية التي يمكن أن يختبرها الكائن البشري.

نحنُ في مسيس الحاجة للدهشة في أيامنا هذه ، وهذا هو السبب الذي يجعل أغلبنا لايرى في الشعر قيمة براغماتية ( عملية ) في كلّ مرّة يقرأ فيها شعراً. نميل دوماً إلى اعتبار الشعر قيمة تتعالى على الانشغالات البراغماتية ؛ لكنّ أدمغتنا قادرةٌ فقط على الاستجابة الطيبة مع التجارب الروحية العصبية ( أي التي تثيرُ حسّ الدهشة فينا ، وتتناغم مع الحياة البشرية ولاتتعالى على الاعتبارات البراغماتية ) ، ومن أجل هذا نحنُ في حاجة عظمى إلى الأدب. تحتاجُ أدمغتنا إلى الأدب بمثل حاجة أجسادنا إلى الطعام، والأدبُ هو مايوفّرُ لأدمغتنا الدافعية الأساسية لفهم العالم في طريقة تفاعلية متبادلة التأثير مع العلم. "

أتمنّى أن يجد كتاب البروفسور فليتشر طريقه للترجمة السريعة إلى العربية. أظنّ أنّ هذه الترجمة ستوفّرُ لنا رؤية مستجدّة لطبيعة الفن القصصي غير تلك التي تكلّست في الدوائر الاكاديمية وطبقات الانتلجنسيا الادبية الكلاسيكية التي تتسيّدُ المشهد الادبي العربي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram