اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: ... وحِجارتُه رمّان

مرساة: ... وحِجارتُه رمّان

نشر في: 7 نوفمبر, 2023: 10:28 م

 حيدر المحسن

في الريف العراقي يعتقد الناس أن المرأة إذا جلست في مكان نقلت إليه شيئاً من حرارتها، فلا يجوز للرجل الجلوس في المكان نفسه حتى يبرد، وتزول عنه النجاسة.

تُضرب المرأة عندنا قبل الغداء وبعد العشاء، حسب ما يقول المثل، بل إن العقاب مفيد لها: اكسرْ للبنت ضلعاً يطلع لها أربعة وعشرون. ولا أحد يدافع عن المرأة غير قلبها.

فهو يضطرب، ويتألم، ويبكي. قلب المرأة الرقيق يكابر كثيراً، وينتصر قليلاً:

"ضربُ الحبيبِ مثلُ قرطِ الزبيبِ، وحجارتُه رمان".

لكن الرجل يقسو ويشتدّ، و"ثخّنها" هذه المرة. روى لي أحد الرعاة أنه هاتف نسيبه بواسطة الموبايل يسأله عن أخته التي تكثر في السؤال والطلبات، وأفتى له الأخ بضربها. لكن الضرب أنواع. فأيّ نوع تقصد؟ سأله الزوج. أجابه خال أولاده: كسّرها! بالجيم المثلّثة أو المعطّشة. يقول: فقمتُ إلى أشدّ عصا عندي أسوق بها البهائم، وبدأتُ بذراع زوجتي أولاً، ثم الساق، وكنت أريد أن أكسر لها ظهرها لولا أنني استغفرت الله. قال الراعي ذلك، وارتسمت على وجهه مخايل قسوة غير سويّة.

زرتُ هذا النسيب الذي أفتى بضرب أخته، زوجة الوحش الراعي، في بيته في مدينة النهروان، جنوب شرق بغداد. كانت البنت اليتيمة مطلّقة، وعادت تسكن مع أخيها. أحاول أن أقدّم هنا وصفاً للمكان حيث الباحة فيها فضلات الشياه، والبنت المسكينة تمشي على عكّاز، وتنظّف المكان. سألتُ عن عمرها وأجابني أخوها، بعد تذكّر طويل، إنها لم تبلغ العشرين. مضت سنوات عدّة إذن على حادثة الضرب المشؤومة، فكم كانت الطفلة رقيقة العود حين كسّرها الوحش الذي لا يخاف الله؟

كنت أشعر بالصفاء وبرغبة ملحّة في الحديث معها، لكنّ التقاليد هنا تمنعني من القيام بذلك. صاح بها الأخ أن تستعجل عملها، وسحب نفساً من سيجارته فالتمعت شعلتها، وتلاشى صوته وبقي السكون حولنا، يقطعه صوت المكنسة التي كانت عبارة عن سعفة يابسة. البنت ترتعش مع كل خطوة بسبب ضعفها، وثيابها ملطّخة بالعجين اليابس. كم تشقى هذه البنت البائسة في خدمة أخيها الذي لا يفعل شيئاً غير أن يدخّن ويبقى مغتمّاً طوال الوقت. حاولتُ أن أحفظ كلّ ما تقوم به البنت، أدرسه، وأفكّر فيه عن كثب، حتى أنني كتمت أنفاسي لئلا تفوتني من عمود الصبر هذا ولو لمحة، وهو يذوب ببطء. كان الحزن قد طمس معالم وجهها، وصيّر له لوناً مبهماً غير محدّد كأنه مزيج من الغبار والظلمة. استعجلت البنت إنهاء عملها وفرشت لنا بساطاً كي نجلس، وكانت أهدابها ترفّ في الأثناء بسرعة، ثم سعلت، وظلّت تسعل ويختضّ بدنها ويتضاءل. ما الذي يمكنني فعله وأنا ممنوع من الكلام معها؟

المجتمع في الشرق ذكوريّ بالكامل، فلا يليق ذكر المرأة في أيّ مكان خارج البيت، سجنها الأبدي. اسمها هو الآخر عورة ـ وهذه ثقافة سادت مدننا في الخمسين سنة الأخيرة ـ

فتُسمّى المرأة بأم فلان، وهو وليدها الأول، وكأننا اتفقنا على أن تكون المرأة محطّة للتفريخ، وعندما تموت لا يذكر الناعي في المجلس وفي الصحيفة وفي اللافتة السوداء غير اسم وليّها، الزوج إن كانت متزوّجة، والأب إذا كانت عزباء، وكأن المرأة خطر يمتد مفعوله إلى ما بعد الاندثار في القبر.

في بلاد الشام تقول المرأة لزوجها: "قوّسني برصاصة ولا تضربني بقضيب توت".

ليس بعيداً عن العراق، يذكر تورجينيف في"مذكرات صياد" أغنية الحماة في الرّيف الروسي:

"لستَ ابناً لي...

لستَ ربّ عائلة! ما دمت لا تضرب زوجتك

ما دمتَ لا تضرب صغيرك..."

لكنّ زمانَ تورجينيف متأخر عن الآن بأكثر من قرن ونصف من السنين. فهل ما زلنا نعيش في ذلك الزمان، نتعامل مع المرأة على أنها بهيمة، ونطلب منها في الوقت نفسه أن تكون رقيقةً مثل ملاك؟

إن الشرّ، دائما، يستجلب الشرّ، وقد أثبت الطبّ الحديث مساوئ عديدة تحيق بالأسرة والمجتمع نتيجة ضرب المرأة. مثلٌ طريفٌ وكلّه حكمة أختم به هذا المقال: "اضرب المره (المرأة) بالمره، واضرب الزمال (الحمار) بالقندر... (الحذاء)"

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram