حيدر المحسن
في الريف العراقي يعتقد الناس أن المرأة إذا جلست في مكان نقلت إليه شيئاً من حرارتها، فلا يجوز للرجل الجلوس في المكان نفسه حتى يبرد، وتزول عنه النجاسة.
تُضرب المرأة عندنا قبل الغداء وبعد العشاء، حسب ما يقول المثل، بل إن العقاب مفيد لها: اكسرْ للبنت ضلعاً يطلع لها أربعة وعشرون. ولا أحد يدافع عن المرأة غير قلبها.
فهو يضطرب، ويتألم، ويبكي. قلب المرأة الرقيق يكابر كثيراً، وينتصر قليلاً:
"ضربُ الحبيبِ مثلُ قرطِ الزبيبِ، وحجارتُه رمان".
لكن الرجل يقسو ويشتدّ، و"ثخّنها" هذه المرة. روى لي أحد الرعاة أنه هاتف نسيبه بواسطة الموبايل يسأله عن أخته التي تكثر في السؤال والطلبات، وأفتى له الأخ بضربها. لكن الضرب أنواع. فأيّ نوع تقصد؟ سأله الزوج. أجابه خال أولاده: كسّرها! بالجيم المثلّثة أو المعطّشة. يقول: فقمتُ إلى أشدّ عصا عندي أسوق بها البهائم، وبدأتُ بذراع زوجتي أولاً، ثم الساق، وكنت أريد أن أكسر لها ظهرها لولا أنني استغفرت الله. قال الراعي ذلك، وارتسمت على وجهه مخايل قسوة غير سويّة.
زرتُ هذا النسيب الذي أفتى بضرب أخته، زوجة الوحش الراعي، في بيته في مدينة النهروان، جنوب شرق بغداد. كانت البنت اليتيمة مطلّقة، وعادت تسكن مع أخيها. أحاول أن أقدّم هنا وصفاً للمكان حيث الباحة فيها فضلات الشياه، والبنت المسكينة تمشي على عكّاز، وتنظّف المكان. سألتُ عن عمرها وأجابني أخوها، بعد تذكّر طويل، إنها لم تبلغ العشرين. مضت سنوات عدّة إذن على حادثة الضرب المشؤومة، فكم كانت الطفلة رقيقة العود حين كسّرها الوحش الذي لا يخاف الله؟
كنت أشعر بالصفاء وبرغبة ملحّة في الحديث معها، لكنّ التقاليد هنا تمنعني من القيام بذلك. صاح بها الأخ أن تستعجل عملها، وسحب نفساً من سيجارته فالتمعت شعلتها، وتلاشى صوته وبقي السكون حولنا، يقطعه صوت المكنسة التي كانت عبارة عن سعفة يابسة. البنت ترتعش مع كل خطوة بسبب ضعفها، وثيابها ملطّخة بالعجين اليابس. كم تشقى هذه البنت البائسة في خدمة أخيها الذي لا يفعل شيئاً غير أن يدخّن ويبقى مغتمّاً طوال الوقت. حاولتُ أن أحفظ كلّ ما تقوم به البنت، أدرسه، وأفكّر فيه عن كثب، حتى أنني كتمت أنفاسي لئلا تفوتني من عمود الصبر هذا ولو لمحة، وهو يذوب ببطء. كان الحزن قد طمس معالم وجهها، وصيّر له لوناً مبهماً غير محدّد كأنه مزيج من الغبار والظلمة. استعجلت البنت إنهاء عملها وفرشت لنا بساطاً كي نجلس، وكانت أهدابها ترفّ في الأثناء بسرعة، ثم سعلت، وظلّت تسعل ويختضّ بدنها ويتضاءل. ما الذي يمكنني فعله وأنا ممنوع من الكلام معها؟
المجتمع في الشرق ذكوريّ بالكامل، فلا يليق ذكر المرأة في أيّ مكان خارج البيت، سجنها الأبدي. اسمها هو الآخر عورة ـ وهذه ثقافة سادت مدننا في الخمسين سنة الأخيرة ـ
فتُسمّى المرأة بأم فلان، وهو وليدها الأول، وكأننا اتفقنا على أن تكون المرأة محطّة للتفريخ، وعندما تموت لا يذكر الناعي في المجلس وفي الصحيفة وفي اللافتة السوداء غير اسم وليّها، الزوج إن كانت متزوّجة، والأب إذا كانت عزباء، وكأن المرأة خطر يمتد مفعوله إلى ما بعد الاندثار في القبر.
في بلاد الشام تقول المرأة لزوجها: "قوّسني برصاصة ولا تضربني بقضيب توت".
ليس بعيداً عن العراق، يذكر تورجينيف في"مذكرات صياد" أغنية الحماة في الرّيف الروسي:
"لستَ ابناً لي...
لستَ ربّ عائلة! ما دمت لا تضرب زوجتك
ما دمتَ لا تضرب صغيرك..."
لكنّ زمانَ تورجينيف متأخر عن الآن بأكثر من قرن ونصف من السنين. فهل ما زلنا نعيش في ذلك الزمان، نتعامل مع المرأة على أنها بهيمة، ونطلب منها في الوقت نفسه أن تكون رقيقةً مثل ملاك؟
إن الشرّ، دائما، يستجلب الشرّ، وقد أثبت الطبّ الحديث مساوئ عديدة تحيق بالأسرة والمجتمع نتيجة ضرب المرأة. مثلٌ طريفٌ وكلّه حكمة أختم به هذا المقال: "اضرب المره (المرأة) بالمره، واضرب الزمال (الحمار) بالقندر... (الحذاء)"