طالب عبد العزيز
في دكانة صغيرة وسط المدينة، ومع مغيب شمس كل يوم خميس نلتقي، نحن القادمين من الباب الخلفي لدائرة التقاعد، الذين أكلت ظلماتُ الخدمة والعسكر سنواتهم الاولى، واستولت الكتب والقراطيس على ما بين ايديهم من الوقت والمال، بيننا الذي يتخذ عكازة، ذات ثلاث شعب سنداً لرجليه، ومثله من يستعين بصديق، لكي يبلغ عتبة الباب، وآخرون مازال بإمكانهم الإتيان بالخمرة والفاكهة والثلج من السوق القريب.
كل شجن واغتراب لا يبتدأ ببيروت وباكو ولا ينتهي بييرفان وطهران لا يسمى شجناً وإغتراباً، وكل حوار في النساء وأقلام الحمرة حوارنا ومادة سهرنا، وكل امرأة تدخل باب الحديث هي خليلة لأحدنا، نحن، وفي كل ليلةٍ، نفرغ المقاعد، لتجلس جولي وليلى وعائشة وميري، يشاركننا خمرتنا وحماقاتنا وشتائمنا، وغضب بعضنا من بعضنا.. حقائبنا في الطريق اليهنَّ، ومكاتب السفر أخيلةٌ تراودنا في اليقظة والحلم، إذْ، هناك ما نضيعه ونفقده دائماً، نساء كثيراتٌ يلوين بأعناقهن، يجلسن بإنتظارننا على مصاطب المطارات وفي الكافيهات ايضاً، وفي المقاعد الخليفة لسيارات الاجرة يطعمننا القبل مع اللبان المرِّ والنبيذ. نحن الذاهبين الى الحانات البعيدة، العائدين من كل زقاق يقود السكارى الى التراكوفا، صرنا نربّي في كوؤس الخمرة رغباتنا، نجلسُ الوقتَ على ركبتي الليل، ونتوعدُ الايام كي تنام باكراً، وما المسافة بين التذكر ونحوه ببعيدة، لكنَّ الدكانة تضيق، وجرذان الصبر تقرض ارواحنا، بعيداً عن أصابع من نحب ونعشق.
ليس بيننا من لم يندب أيّامه بين فخذي امرأة، وليس بيننا من لم يعثر على ضالته في حَلَمَةٍ تفلتت من قميص أزرقَ فجأة، ومن لم يأخذ عنها كلسونها الى حافة السرير، وما انتظار امرأة جميلة على مصطبة في مدينة بعيدة بعيب على أحدٍ، ولا يشيننا حملُ حقيبتها في السوق، حيث لا يسألنا أحدٌ عن الطريق، ولا يدلنا عليه أحدٌ، نحملها، فلا تنال عروتُها من فحولتنا شيئاً، ونضيعُ، فتدلنا صويحبةٌ لنا على حانة، تعرفها، ونحزنُ، فتلقي إحداهنَّ علينا من بُرُدِها ما يُذهبُ الحَزَنَ والندم والموت، وربما ذهبنا الى البحر بإرادتنا، نسميّ الطريق اليه نزهةَ الخاطر. نطلق على الخمسين والستين أسماء لا نعرفها، وقد نأخذ السبعين الى حقيبة صغيرة، كثيرة السلاسل والارقام، فلا نقربُ سحّاباً لها، ولا نتصفح باطنها، لتظلَّ ستونها وسبعونها، ما صعب وغلظ وإنخرق من تفاهاتها مطوية مع بنطلونات الجينز والفانيلات والتبابين الرطبة.
هناك من ظلَّ أميناً على جسد خليلته، فاستودعه الدِّعة واللطف واللمسة الحنون، غير مبالٍ بجسده، يطاعن غربةً لاتبرحُ ولا تزول، يتيماً، في أرخبيل النخل والماء المالح هذا، محتفظاً بصنبور ظمئه، معلقاً في الفراغ الشاسع، وبكأسه مترعةً ما امتدت اليها يدُه، وما عقِب الليلُ النهارَ، يتصفحُ في شاشة هاتفه بطولةً أخيرةً زائفهً، نصفها صمتٌ وكلها حنين باردٌ، يُضهِدهُ شوقٌ ليست آلام الرقبة منه بشيء، فيرسل الصباحات معطرة برائحة القهوة، مع أول أغنيةٍ لفيروز، ويبعث بالمساء آهاتٍ تتقطع على بحؤر لاتصل بحرَ البصرة بالخزر، الذي صار يبتعد في تاشيرة المطار. نحن أبناء مدن الذكورة، التي تشحُّ في أسواقها أذرعُ الاناث البيض، وتبخل ساحاتُها علينا بالسيقان المنحوتة، والارداف قليلة الشحم، الذين لم نتلقَ درساً كاملاً في العشق والسهر، أجسادٌ نساء كثيرات سقطت من بين ايدينا في طريقنا الى المدن الناعمة تلك، سنظلُّ نرفعُ كؤوسنا كلَّ ليلة خميس، نتصفحُ (ماضي الايام الآتية)ونفردُ المقاعدَ لصويحباتنا في الدكانة الصغيرة.