اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > سردية الحصار في الرواية العراقية

سردية الحصار في الرواية العراقية

نشر في: 18 نوفمبر, 2023: 10:40 م

د. نادية هناوي

تفرض دولة أو مجموعة دول قوية ومتنفذة حصارا على شعب من الشعوب ضعيفة القدرة ومحدودة النفوذ، بقصد معاقبتها والضغط عليها كي تستجيب لما تريده منها سياسيا واقتصاديا.

وسواء كان الحصار جزئيا أو كان كليا، فان ضرره فادح بحق البشر وغير البشر وبمختلف المقاييس الدولية والإنسانية. ولقد تفاقمت في الثلاثين سنة الاخيرة حالات فرض الحصار على الشعوب، واتخذت صورا مختلفة، منها حصار المدن ومنها حصار الاقتصاد، ومنها حصار الاجواء الملاحية البحرية أو الجوية. وعلى الرغم من ان هذه الحصارات لا تضر الحكومات ولا تؤذي طاقمها السياسي بقدر ما تضر الشعوب اطفالا ونساء وشيوخا، فان الولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية ومعهما الامم المتحدة ما زالت تستمر في اعتماد سياسة الحصار كاستراتيجية بها تعاقب الشعوب كي تجعل حكامها يستجيبون لأغراضها، وكوسيلة بها تؤكد غطرستها فتردع الحكومات ومن ثم تمرر مخططاتها السياسية والدولية.

واكثر الحصارات شمولية في صرامة عقوباتها وعالمية فرضها هو حصار العراق الذي فرض بإرادة امبريالية أبان احداث 1990 ولم يكن لهذا الحصار مثيل سابق لا في التاريخ القديم ولا الحديث وعلى الرغم مما فيه من خرق لأعراف ومواثيق حقوق الانسان، فانه استمر لأكثر من عشر سنوات عجاف ضربت خلالها اطواق رهيبة من الحدود الى الحدود ولم يسمح خلالها لاي مساعدات انسانية ان تدخل الى اية منطقة من مناطق العراق الا بامر دولي. الامر الذي حول البلاد الى معتقل بشري كبير وكنموذج لا سابق له في تنفيذ أكبر عملية معاقبة بشرية في التاريخ.

ولم يكن اليوم الذي أُعلن فيه فرض الحصار على العراق في مطلع تسعينيات القرن الماضي بالطبيعي، فلقد جاء عنيفا بكل هوله دفعة واحدة فلا هو محدد الزمن ولا هو مقيد المجال باقتصاد أو سياسة أو تعليم أو صحة أو صناعة. ولم تكن تقديرات العراقيين لأبعاده المستقبلية بالملائمة فلقد فاق كل التوقعات والاحتمالات، شاملا كل شيء حيا وغير حي، والمفارقة ان شرور عقوباته كانت واقعة على كاهل الشعب بعامته في حين ازدادت شوكة المتسببين بفرض الحصار قوة فغدوا أكثر بأسا وهم يشنون حملتهم الشعواء على العراقيين قاطبة بدءا من احداث الانتفاضة الشعبية التي أخذت من العراقيين ما أخذت.

وكلما مرت سنة، زاد الحصار قسوة وارتفعت نسب الشحة ومظاهر الشظف سواء باحتكار المواد وارتفاع أسعارها أو ببطش الجبارين من أتباع الدكتاتور الذين مسكوا مصائر العراقيين بأيديهم. وما أن تمضي سنة عجفاء حتى تأتي بعدها سنة أعجف منها، ولم ينج من عقوبات الحصار احد من العراقيين سوى من اضطر لترك البلاد والهرب بطرق شرعية وغير شرعية ظافرين اما بالهجرة أو اللجوء في حين قبع القسم الاعظم من العراقيين داخل البلاد مسجونين داخل حدوده المنيعة وتحت مطرقة الحصار وعقوبات الدكتاتور وتهوره.

في تلك الاعوام التسعينية العجاف لم يكن لشريحة المثقفين ان تنتقد الوضع وتعبر عن معاناة ابناء البلد. واذا غالب الاديب نفسه واراد تصوير الوضع العراقي فانه يمسه مسا في كتاباته الادبية ولاسيما الرواية. واستمر الحصار في قسوته من عام 1991 الى ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق. والعالم لا يعرف شيئا عن عقوبات تحمَّل العراقيون وزرها حتى أكلت السنوات العجاف سنوات العراق السمان وتركته هيكلا ذاويا، كهلا ومعتلا بكل أمراض الدنيا وتحطمت بناه التحتية والفوقية واهمها الروح المعنوية التي معها تغيرت كثير من القيم وهوت اخرى وصار العراقي مثالا يتندر عليه. وعلى الرغم من ضيق ذات اليد، فان الاصالة بقيت في نفوس العراقيين من الذين كيفوا وضعهم بحسب مصاعب الحصار.

واذ لم يكتب الاديب العراقي عن الحصار بعد ان ولت الدكتاتورية، فلأن ما حصل بعد الاحتلال الامريكي للعراق من صور كانت شديدة الوطأة عليه تماما كالحصار، فمن الطائفية الى الارهاب ومن التهجير الى النزوح ومن السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة الى سقوط الموصل وتغييب ثوار احتجاجات تشرين ومظاهراتها.

ومن يطالع روايات وقصص ما بعد 2003 الى يومنا هذا فسيجد انها لاحقت هذه الاحداث وتوجهت نحو كشف خفاياها وتوثيق صورها اللاانسانية والدموية فكان لكل موضوع سرديته القائمة بنفسها. أما الحصار فانه لا يذكر إلا بشكل عرضي وعابر في خضم تلك الاحداث التي اخذت حصة الاسد في السرد الروائي العراقي. ولنا ان نعدد عشرات الروايات التي تناولت المقابر الجماعية والانفال والابادة الايزيدية والمفخخات وداعش في حين تلاشت في خضم ذلك كله سردية الحصار.

واذا كان الاديب بالأمس يعيش حالة حظر، فانه اليوم مطالب ان يستعيد صور الحصار ويؤشر على اجرامية فرضه ويضع ادانته الصريحة والمباشرة للأطراف التي تسببت في حصوله.

ولقد قدمت رواية ما بعد التغيير ادانتها المباشرة والقوية للمقابر والإبادات الجماعية والحروب المزاجية والعبثية ولكنها لم تدن الحصار ولا وضعت له سرديته الخاصة، ولا قالت كلمتها في الوضع المزري الذي كانت تعانيه كل فئات الشعب العراقي.

وهنا نتساءل أ لم تغدو الكتابة السردية ـ بعد 2003 ـ فعلا ذاتيا لا يتأثر بمؤسسة أو ولاء فلماذا اذن يشيح الروائي العراقي بوجهه عن كتابة سردية الحصار؟

ولان لكل قاعدة استثناء، فان هناك روايات قليلة أولت مساحة غير قليلة من أحداثها لتحكي سردية الحصار ومنها رواية(الدولفين) للراحل عدنان منشد وفيها سلط ضوءا مقربا للغاية على صور كثيرة من الحصار من قبيل قول بطلها الدولفين(وكانت ثالثة الاثافي التي اطاحت بي والكثير من اقراني هي حالة الحصار الدولي على العراق حال احتلال القوات العراقية لدولة الكويت، ثم تكرس هذا الحصار المقيت بشكل مؤلم وعنيف بعد تحرير الكويت من قبل القوات الاطلسية ليطال مجموع الشعب فقراء واغنياء موظفين وكسبة نساء وشيوخا واطفالا, وكالكثير من العلماء واصحاب الشهادات العليا في العراق وجدت نفسي غير مرغوب في الجامعات العراقية حينها اصبحت كراسي هذه الجامعات مشغولة اكاديميا بتلاميذي وتلاميذ تلاميذي).

ولقد ادان عدنان منشد في (الدولفين) الحصار كجريمة زادت الدكتاتور وجلاوزته قوة وجعلته اكثر بطشا في ممارسة جرائمهم ضد العراقيين وباشكال مبتكرة(عشت في شوارع العاصمة وفي اعمق اعماق مدننا العراقية الملتهبة بالنار والبارود والدم كاي انسان لم يستنفد قدراته العلمية بعد، مضطرا الى التعايش بمهنة غير علمية أو مهنة الذي لا مهنة له في مجتمعنا العراقي اذ اصبحت سائق تاكسي في سيارة كندية الصنع تدعى(دولفين) موديل 1998.)

وكثيرة هي تراجيديات الحصار التي يسردها عدنان منشد في روايته(الدولفين) بدءا من شحة القوت اليومي الى صعوبات العيش الكريم. وبسببها تحول البطل البروفيسور داوود محمد امين من العالم والاستاذ الجامعي الذي كانت ابحاثه تأخذ كل وقته الى سائق تاكسي تفككت اسرته وضاقت عيشته واهدر ماء وجهه وهو يرى الناس فئتين فئة غالبة محتكرة تتاجر بكل شيء منتفعة ومخربة، وفئة اخرى مغلوبة ومقهورة، وكثيرا ما ركز السارد عليها فتحدث عن دقائق ما عاشته من شظف، وهي بمجموعها بمثابة خطاب ادانة علني لمن اراد اغتيال شعب بكامله باطفاله ونسائه وشيوخه ورجاله ودوابه وزرعه (كان زمن الحصار التسعيني جائرا ومتعبا ومتعسفا.. رباه! كم كان العراقيون يعيشون هذا الكيد الاممي المشين من دون مسوغ؟ ثم مضت بنا السنون قاصفة مدمرة رهيبة حتى دهمنا العدوان مرة ثانية، واسقط صنم صدام حسين في ساحة الفردوس في عملية تحرير مذلة تقودها دبابة امريكية واحدة ورهط لا يتجاوز اكثر من سبعة جنود من قوات المارينز البحرية وجوقة غير منضبطة من العراقيين اتاحت لها هذه الفرصة ان تتناوش الصنم النحاسي الاصم بالنعل والاحذية والكراكيب تحت قيادة بطل التحرير العراقي المشهور(ابو حقي)) ومن الطبيعي بعد كل هذا الخراب ان تفسد الحياة في العراق المنكوب تحت مسميات (النفط مقابل الغذاء) و(النظام الفيدرالي) و(المحاصصة والمذهبية)

إن من واجب شريحة المثقفين العراقيين العمل على تأسيس مشروع سردي وطني غايته كتابة سردية الحصار بكل أشكالها وإشكالياتها أسوة بالمشاريع التي أسست قبله ووثقت جرائم النظام المباد كسرديات السجون والأسر والحرب والمقابر والانفال أو المشاريع التي سجلت مثالب النظام الديمقراطي الراهن كسرديات الإبادة والنزوح والتهجير والانتفاضات التشرينية وغير ذلك مما يُهتم به الان تحت باب التوثيق وأرشفة الذاكرة العراقية.

وما دام الجيل الذي عاصر الحصار وعايش ويلاته ما زال بيننا، فلنفد منه ونوثق القصص ونسجل الحكايات التي يسردها الرجال والنساء والذكريات الخاصة وغير المرئية عن الحصار وما ما فيه من شحة الغذاء والدواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram