اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > رياض النعماني: على الشاعر أن يكون شرساً في الدفاع عن موقفه وفكره

رياض النعماني: على الشاعر أن يكون شرساً في الدفاع عن موقفه وفكره

نشر في: 20 نوفمبر, 2023: 09:20 م

الشعر كان ينسيني التعب والخوف وأنا الصبي الذي لم يتعود الغياب عن بيت أهله

حاوره/ علاء المفرجي

- 2 -

يرى الشاعر رياض النعماني، القصيدة قبل ان تُكتبْ هي نوع من الغيب، اي انها وجود غامض يتحرك في في مجال آخر غير مدرك، رغم أن هذا الوجود غير المدرك لم ينفصل لحظة واحدة عن جميع تفاصيل حياتنا، فالشاعر الحقيقي هكذا يشتغل ويعد نفسه ويمهدها للحظة التفجر والتوهج اي لحظة كتابة القصيدة.

ومن هنا فأنه لا يرى في الاساس في اعماقه رغبة ملحة للظهور والشهرة، بل احيانا اجدني شغوفا، ويبجل المبدعين الصامتين، غير الاستعراضيين، امثال الشاعرة (اميلي ديكنسون) والشاعر العراقي الكبيرعبد الرحمن طهمازي. فهو كثير الكتابة ولا يدري بالضبط لماذا لم النشر قلق.. لذا هو أضاع شعرا كثيرا في تشتت واضطراب حياته الموزعة في اماكن غير قليلة.

يرى أن الاغنية كنشاط ثقافي روحي خاص وفريد تمنح تجربة الشاعر افقا آخر، وتزوده بجناح مضاف للطيران في فضاءات لم يجربها من قبل. فقبل عدة ابام تواصل مجددا مع الملحن كمال حميد لانجاز اشياء جديدة. اما اليوم كما يقول فأن حال الدنيا والعراق والاغنية لا يسر.. لذا تراه بلا اعمال جديدة، رغم ان لديه نصوص كثيرة.

أما عن علاقته باليسار فأنه يرى التجربة السياسية التي زعمت الاستناد الى الماركسية فهي كانت خيبة دموية حيث (ديكتاتورية البروليتاريا، المركزية اللينينية الشديدة) انتجت الغول الدموي جوزيف ستالين الاب الروحي لصدام حسين وكل الجلادين المرضى.. والقادة المتخلفين، والذي اضاع حلم الناس في مستقبل الشيوعية النير الانساني العظيم.

مثلما تحدث عن الموت تلك الحقيقة الوحيدة في حياتنا، فهو يرى في الموت لا تجد فاشيات ولا نازيات ولا حروب ولا حصار يدمر شكل وهوية الحياة ولا استعباد ولا قهر ولا فناء انه بقاء ازلي لا تفسده اميركا او الانظمة الذليلة والعميلة التابعة لها ولا دول اوربا الاستعمارية التي لولا مواقفها وما تقدمه من اسناد وخدمات لما نجحت اميركا في فرض حصاراتها التي دمرت وتدمر شعوبا عظيمة ومسالمة. ولما رأينا مأساة فلسطين، ولا ما يجري في غزة من توحش يفوق اي تصور او خيال.

من اين تأتي القصيدة عند النعماني؟

علينا ان نعرف اولا ان القصيدة قبل ان تُكتبْ هي نوع من الغيب، اي انها وجود غامض يتحرك في في مجال آخر غير مدرك (المستقبل)، لكن هذا الوجود غير المدرك لم ينفصل لحظة واحدة عن جميع تفاصيل حياتنا اليومية فهو مرتبط بنا وبوعينا ارتباط المشيمة بالجنين.. ينمو ويكبر ويتفتح بأستمرار ما دمنا ننمو ونتفتح ونتطور بفاعلية الارتباط بتعبيرات الوعي والفكر ومنجزات الثقافة والعلوم.

الشاعر الحقيقي هكذا يشتغل ويعد نفسه ويمهدها للحظة التفجر والتوهج اي لحظة كتابة القصيدة. اتذكر اني قرات قولا للعالم أنشتاين له علاقة بهذا المعنى. من اعماق هكذا إنشغال وتصور ستأتي القصيدة في كل مكان (على الاقل بالنسبة لي) في الشارع او المقهى.. في البيت أو الدائرة، في سيارة او مع جماعة.. وحتى يزورك احيانا بعض منها في النوم.

ارى انك لم تنشر الا مجاميع شعرية قليلة رغم التجربة لك داخل العراق او في المنفى، وحضورك الطاغي والفاعل في الوسط الادبي العراقي.. هل لك ان تحدثنا عن السبب في ذلك.؟

في الاساس لم أجد في اعماقي رغبة ملحة للظهور والشهرة، بل احيانا اجدني شغوفا، وأبجل المبدعين الصامتين، غير الاستعراضيين،امثال الشاعرة (اميلي ديكنسون) والشاعر عبد الرحمن طهمازي.. وحتى في الكائنات أراني عموما أمْيَلْ للانسان الهادىء.. وفي الحب، فأن المرأة الهادئة ذو الوجه الأليف الدافئ، الذي به من عذوبة وضوء وجه مريم العذراء.. و التي تشبه جملة شعرية سقطت سهوا من يد الرضا على العالم تملؤني بالحرائق والبكاء والشعر.

انا كثير الكتابة يا علاء لكنني ولا ادري بالضبط لماذا لم انشر الا القليل القليل.. لذا فأنني اضعت شعرا كثيرا في تشتت واضطراب حياتي الموزعة في اماكن غير قليلة.

كتبت القصيدة المغناة منذ بداية سبعينات القرن المنصرم وتعاملت مع ملحنين عراقيين كبار، حدثنا عن أثر هذه التجربة، ومدى استمرارها؟.

الاغنية نشاط ابداعي كوني حميم يدرجك في حركة وشفافية ودفئ العالم وحتى استبطانه اذا كنت ممن يعي ويدرك حساسية وخطورة نص الاغنية، فلكي تكتب اغنية جيدة عليك ان تصغي بكليتك لخطوط روحك وروح الاشياء التي تحيطك.. وان تكون بعضا من محبة كل شىء... مجتمعك ووطنك وتاريخك وعناصر الطبيعة وروائح بيئتك التي عشت فيها.. ينبغي ان تكون وفيا لكل هذا كي تكتب اغنية جيدة وعفيفة.

من جهتي تيقظت وبشكل مبكر لهذا الموقف ساعدني في ذلك محيط صداقاتي المثقف.. وعموم الملحنين الذين تعاملت معهم، كوكب حمزة ملحن متطلب حرفيا وليس عاديا دفعتني علاقتي الغنائية به لان ابحث عن افق الحداثة في النص والاستعانة بطاقة القصيدة كي أغني النص بمقومات ثقافية عالية، تجعل الاغنية عملا غير عابر،

الملحنون سامي كمال، كمال السيد. فلاح صبار، حميد البصري، طه حسين رهك، سرور ماجد، والملحن السوري كمال حميد (ابو خالد)، مفيد الناصح، كلهم دفعني حرصهم الكبير في انجاز اغنية جيدة على السهر والعذاب والبحث عن الافق الجديد.. كنت حريصا على ان أصغي لكل ملحن وان اتعلم منه، كذلك كانت لي تجارب ولو بسيطة مع طالب القره غولي وجعفر الخفاف، وطالب غالي.. مع الملحن طالب القره غولي وبجهد الاستاذ فخري كريم انجزت عملا هو افتتاحية مهرجان المدى (دورة الشاعر الجواهري) غناه الفنان ياس خضر. هناك محاولة مع الملحن الصديق نامق اديب. اعتذر اذا نسيت احد الملحنين

وفي العموم فأن الاغنية كنشاط ثقافي روحي خاص وفريد تمنح تجربة الشاعر افقا آخر، وتزوده بجناح مضاف للطيران في فضاءات لم يجربها من قبل.

قبل عدة ابام تواصلت مجددا مع الملحن كمال حميد لانجاز اشياء جديدة. اما اليوم فأن حال الدنيا والعراق والاغنية لا يسر.. لذا تراني بلا اعمال جديدة، رغم ان لدي نصوص كثيرة.

اعتناقك لافكار اليسار منذ بواكير حياتك والتي دفعت ثمنها تشردك عن الوطن.. كيف هي قراءتك لها الان؟

في صميم قناعتي ان ماركس هو احد انبياء الحياة الوضعيين العظام، ففي معظم ما طرحه من افكار كان صائبا... فهو على عكس ما قدمه وصوره لنا بعض قراء فلسفته على انه عبارة عن مادة صلبة، غير مرنة ابعدته عن طروحات الحداثة.

كان ماركس ينتمي لحداثة العالم.. وفي هذا الخصوص وعليه يؤكد الكاتب الاميركي (مارشال بيرمن) الذي يضعه الى جانب نبي الحداثة الفرنسي الكبير بودلير... هذا يعني ان ماركس ما زال يتمتع بحضور وفاعلية لم ينتهي زمنها... سارتر قال ايضا بمستقبلية افكار ماركس.

ماركس تحدث عن وحشية ولا انسانية التجربة الامبريالية.. وهذا ما نراه ونعيشه ونلمس قذارته وتوجهاته المرعبة والمدمرة للبشرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.. فالامبريالية الاميركية تساعدها في هذا النزوع(الفاش نازي) اوربا الاستعمارية تقوم على تدمير الشعوب وسرقة خيراته ونهبها كي تعود بها اليها بعد ان تحولها الى قدرات وادوات واسلحةافقار وإفناء لهذه الشعوب. امامنا امثلة اليابان وفيتنام وفلسطين اليوم.

ما قاله ماركس عن توحش ولا انسانية الاميريالية نلمسه في ما قامت به سنوات الحصار على شعوب المنطقة حيث ساهمت هذه السنوات بتغييب وتغيير النوع الحياتي لهذه الشعوب والذي تكون واسس هوياته على مدي الآف السنين.. هذه الجريمة البشعة بحق الحياة ينبغي ان تحاكم عليها دوليا كجرائم ضد الوجود الكلي للبشر غير مسبوقة.

بالمقابل فأن التجربة السياسية التي زعمت الاستناد الى الماركسية فهي كانت خيبة دموية حيث (ديكتاتورية البروليتاريا، المركزية اللينينية الشديدة) انتجت الغول الدموي جوزيف ستالين الاب الروحي لصدام حسين وكل الجلادين المرضى.. والقادة المتخلفين، والذي اضاع حلم الناس في مستقبل الشيوعية النير الانساني العظيم.

وبسبب ما أنتجه ستالين من سياسات مشوهة وانحرافات فرضت القيادات السوفيتية المتعاقبة على احزاب العالم الشيوعية تجاوزعامات وتوافقات لا تمت لروح الماركسية النظيفة بشىء، هكذا وجدنا الحزب الشيوعي العراقي يصافح ذئب وغول وسرسري جلاد دموي مثل صدام حسين بعد خمس سنوات على مجازر 8 شباط 1963.

الحديث يا ابو نادين مؤلم ودامي، دعنا نتذكر ونلتفت الى جهة الشهداء العظام وايام الزهو والرايات.

الغربة نوع من المرارة الدائمة التي انت عشتها.. حدثنا عنها.

الغربة كمفهوم....حضوره لم ينقطع او يغب في حياة الانسان المعني بقضايا وظاهرات الحضارة والوجود والثقافة، فهي برأيي بعض من مكونات وعناصر وجوده الموّار، والصاخب والمشتبك مع تعبيرات واقعه وشؤونه اليومية، فهي (الغربة) تواجهه في لحظات مجيئه الاولى الى العالم، وفي مستوى أعمق في بداية إنشغالاته الابداعية،

سيواجهها اولا في لغته، في بحثه فيها وعنها كي يعثر على اسرارها وينابيعها الخاصة ليقوم بمحاولات تجديدها وبلورة واختيار كلامه الخاص من مدارات محيطها اللغوي الواسع.

اللغة غربة المبدع الاولى.. لأنها نوع من المستقبل.. اللامرئي الذي عليه ان يبحث عنه ويلتقي به... هكذا سيكون دائم البحث والاستقصاء والعذاب بفضاء يريد ان يعانقة ويجد كينونته فيه.. انه على وعي تام بأن لغته هي وطنه وارضه ومحنته وفرحه الوجودي المعافى الخلاق.. بهذا المعنى فان هذه الغربة لن تنتهي لان اللغة كون لا ينتهي، ولا يمكن ان ينتهي.

من جهة ثانية... ارى ان موت من تحب هو أشق انواع الغربة واكثرها ألما ومرارة، موت اي صديق انا شخصيا يحطمني تماما يبعثرني ويشردني ويملؤني بمئات انواع السهر والحزن والضياع والبكاء... أُمثّلْ لك.... ان موت مظفر النواب، طارق ياسين وفاضل خليل وفاضل الانصاري ومهدي علي الراضي وشريف الربيعي ومظهر عبد عباس وماهر كاظم وعلي الشباني واصدقاء آخرين مازلت اشعر انه يصيبني باليتم الحقيقي، ويشعرني بأنني بلا اهل ولا وطن ولا ناس.. وحيد وحيد اعزل الى ابعد الحدود.

اما الغربة الواقعيةعن الوطن، وفي الوطن ايضا والتي فرضتها علينا سياسات الحكومات القمعية والفاشية والطائفية فهي عذاب وجرح سيظل مفتوحا، وهي كآلام ومرارة لا تطاق معروفة لجميع الناس... حتى انها صارت نوعا من البداهة المؤذية.

الشاعر مظفر النواب، والمفكر هادي العلوي اسمان يشكلان رمزا كبيرا في الثقافة العراقية، ارتبط بهما النعماني بوشيحة خاصة، أسألك ما شكل الاثر الذي احدثاه في حياتك، ومسيرتك الابداعية؟

إنهم أصدقائي الكبار والصداقة بالنسبة لي هي الحياة، او بتعبير آخر هي تكثيف جليل ومضىء لمفهومات عالية وانسانية فريدة تقوم بها، او تقدمها هذه الحياة لكي تمجد الأنسان، كفكرة ووجود وفعل يساهم في تطوير جماليات الحياة وصيانة مستقبلها الذي هو مستقبل الانسان.

من هذه الشرفة ارى الى علاقتي بالاحبة مظفر النواب وهادي العلوي وأضيف عبد الرحمن طهمازي فهو يندرج بنفس الطور من علو الكينونة البشرية، انهم بالنسبة لي يمثلون خلاصات رائعة لوجودنا كبشر وليس كعراقيين فقط، فراداتهم وامزجتهم الفكرية وثقافتهم ورؤاهم ارى اليها على انها مساهمة كبيرة في صنع حياتنا الحية، فيهم شىء مما يمكن ان اسمية (الشخصية القطبانية بالتعبير الصوفي)، الموكولة بقضايا الكون الفريدة، في الفكر الصوفي ان مثل هؤلاء القطبانيين يكملون تاريخيا عمل المطلق في الوجود.

عندما اكون مع احد هؤلاء (الاولياء) أشعر بنشوة إنجذاب وسكر يتواصل معي حتى بعد ان اغادرهم الى الطريق.. في غبطة وتيهان وتموج كأنني في إشارقة الحب العالية، مغمورا برذاذ طرب الوجد العميم..

كأنني اشعر روحي وقد استحالت الى ترنيم متصل ومتواصل مع ابعاد الكون وينابيعه السرية و اللانهائية..... لك اذن ان تتصور مدى تأثير هذه العلاقة عليّ وفيّ، ثقافيا وشعريا هذا التواصل مع (ابي الحسن وابي عادل وابو سلافة) دفعني لمعاينة تجربتي ومقايسة ابعادها، وتببين وجوب معرفتها كي استطيع قول ما ينبغي ان أقولة ككلام وفكر يخصني انا وحدي.

هؤلاء الكبار جميعم يحملون الفكر الماركسي بينابيعة الشيوعية البعيدة الاولى (مشاعية الشرق القديم)، لذا عثرت على قرابة خاصة جدا تربطهم بيسوع الناصري وبالصوفية كحركة فكرية (وثنية) وليست دينية.

الحديث في مدارج مقاماتهم يطول ويتشعب جدا جدا... كلهم لهم فضل علي لا انساه. لي معهم ما يتجاوز الارومة. إنهم أولياء العفة والنبل والكرامة والوفاء والكبرياء والشرف.. فهم

هادي العلوي ومظفر النواب يحييون موتا هو نوع من التواصل الفذ مع الحياة، وابو سلافة يحيا عزلته وصمته الجليل.. وجميعم يعيشون زمنهم الروحي النبيل وليس الزمن الرسمي الفاسد الذي لا يليق بالأنسان، وخاصة المثقف المبدع.

حدثنا عن الموت.

الموت يا صديقي، صديق الانسان منذ بزوغ ضوء الوجود الاول، انه تجربة خاصة يعبر فيها الانسان من الازل الى الى الابد.. يظل طائرا في قلب واطراف الكون.. يرحل بحرية مطلقة في جميع ارجاء الوجود وفي زمن ليس هو هذا الزمن الرياضي، انه الزمن الحر المطلق.. في الموت يعثر الكائن على كينونته وابديته.. انه يصبح جزءا حيا من جوهر الديمومي الكلي،

فهو ضفة أخرى للعالم يجد فيها الانسان خلاصه وحريته وماهيته.

في الموت لا تجد فاشيات ولا نازيات ولا حروب ولا حصار يدمر شكل وهوية الحياة ولا استعباد ولا قهر ولا فناء انه بقاء ازلي لا تفسده اميركا او الانظمة الذليلة والعميلة التابعة لها ولا دول اوربا الاستعمارية التي لولا مواقفها وما تقدمه من اسناد وخدمات لما نجحت اميركا في فرض حصاراتها التي دمرت وتدمر شعوبا عظيمة ومسالمة. ولما رأينا مأساة فلسطين، ولا ما يجري في غزة من توحش يفوق اي تصور او خيال.

هكذا يبدو الموت بالنسبة لي خلاص تام. لكن الموت بتعبيراته اليومية او الشعبية العامة فأنه مشقة هائلة ومرارة لا تطاق.. بالنسبة لي فأن رحيل. صديق او تغربه او اندحار تجربة هو موت زؤام. بكاء كلكامش على صديقه وخله انكيدو يمثل ابعلد وطبيعة هذا الموت الفيزيائي اليومي.

كشاعر ماهي الامال التي كنت تترقبها بعد عودتك الى العراق، وانت من الاوائل الذين عادوا الى الوطن بعد سقوط الفاشية؟

رغم زمن المنفى الباهض والمرير والذي يشيخ فيه ويهرم كل شىء العمر والاحلام والمشاعر وحتى اللغة.. ويصبح فيه الناس مثل فراخ الحمام. ومثل ايتام صغار، فأننا كنا نحاول ان نغير صورة وشروط منفانا الذي اغلقت فيه معظم دول العالم المتواطىء مع صدام حسين جميع نوافذ الخلاص، بأستثناء سوريا واليمن ولبنان والجزائر.. فبقينا نقاوم عوامل ومعوقات واقعنا وعجزنا بأبتكار نوعا من التحدي المرير والصعب المشرِّف.. لكن حنينا كبيرا وطاغيا ظل يتركنا كائنات هشة سريعة الانكسار.. الحنين ذو اوجه عديدة.. فهو من جهة يحرس ويصون علاقتك بتفاصيل لغتك وذاكرتك التي تبقيك يقظا، و تضىء الوطن في اعماقك الدائمة الوثوب، تُحيي مناخا في الروح يجعلها تقف على جميع تفاصيل عمر الوطن وتنجيك من صعوبات حياة المنفى، ومحاولات اجهزة النظام التي لم تتوقف يوما عن ترهيب وترغيب المنفي، فالنظام الصدامي كان يكاد ان يكون الوحيد بين الانظمة الفاشية الذي لم تتوقف اجهزة مخابراته و موته المنتشرة في كل مكان عن اختطاف وقتل المعارضين في لبنان والسويد والخليج العربي وباكستان وفرنسا والنمسا وبقاع كثيرة كثيرة من العالم.

كان على كل واحد منا ان يبقى متنبها وحارسا لنفسه فظروف غربتنا كانت لعينة بحق.. بحيث ان بعضا من المنفيين قد ضعف وتراجع والبعض تساقط _ تحت ذريعة مصلحة الوطن المهدد بالحرب والاجتياح _ وانجرف في نهر النظام ومستنقعه العفن، حتى انه ذهب الى بغداد ليقدم ولائه الذليل المخجل هناك، قبل ايام شاهدت مقابلة لاحدهم يشتم الكاتب عبد الجبار محسن المستشار الصحفي لصدام حسين والذي قام بنقد تجربة النظام وما قام به من حروب وسياسات قمع وموت رهيب بوعي نقدي عميق وذكي.. ويعيره: (سنواو طويلة تأكل من صحن الرئيس ثم تبصق في ذلك الصحن)، انظر الى عمى الولاء والعمالة بحيث ان هذا المشوه تعامل مع تجربة خطيرة نقدية كيانية كالتي قام بها عبد الجبار محسن بهذه السذاجة.

في ذلك الأوان الشائك والمعقد كنا ندرب في أعماقنا نوعا من الغريزة المتفتحة كي ترعي في يومياتنا املا وحلما لا يتوقفان ولا يموتان بجماليات ومستقبل ما سوف يأتي من قادم البلاد... ولم يكن فينا حتى ممن يملكون اكثر انواع الخيال تأججا وسريالية _ يتوقعون ما آلت اليه احوال العراق بعد الاحتلال، ببساطة لاننا لم نكن نعرف ما حدث بالضبط، اي ان اميركا هي من سوف يسقط النظام، والا لو اننا نعرف ذلك لما كان الامل بولادة عراق جديد ديمقراطي يعيد للانسان حريته وكرامته، لان اميركا لا يمكن ان تكون مع ولادة عراق يكون بمستوى الامنية. لكنني سأبقى اردد مع الفنان جمال كريم وبقية الرائعين الحالمين الشرفاء:

(إمرايه سوده الشمس،

والعمر الخلص كله خسارات، وحنين

واحنا لسه إمعاندين

هنا انعيش

هنا انموت

إمعاندين.)

والان علي ان احيي وانحني لجميع رفاق واصدقاء تلك السنوات الصعبة والمريرة القاتلة. يصون علاقتك بتفاصيل لغتك والمكان التي شهد ولادتك وحياتك هناك

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram