سعاد الجزائري
"اذا فقدنا المكان طويلا، خاصة اذا كان وطنا، او حتى مسقط رأس فأنه يتحول الى حلم، الى أسطورة الى فردوس مشتهى أو مبتغى،
بحيث ان الصورة الحقيقية للمكان المفتقد تصغر امام صورة الحلم الذي كونّاه عنه او من وحيه" هذا النص مقتبس من بناء الصديق الكاتب حسن مدن في كتابه (ترميم الذاكرة) الذي اعادني، وبتأثير أجوائه الصادمة بحقيقتها الى كل الاماكن والبيوت التي عشتها خلال سنوات غربتي بأربع دول ومع وطني يبلغ تعدادها خمس دول.
حسن مدن رمم ذاكرة غربتنا، نحن الجيل الذي لا يمتلك الا نظافة كلمته ووحشة غربته، وجمعنا، بدراية او بدونها، بين طيات ذاكرته.
لا يشعر المرء بتأثير المكان عليه، او تأثره به، اذا كان مستقرا بنفس المحيط لسنوات طوال، ولا يلحظ تأثير التغيير الذي يتركه تبديل المكان، فالانسان الذي تعود على الثبات والاستقرار، يتحول تدريجيا من كائن ديناميكي متحرك الى حالة متكررة تقترب الى الجماد لانعدام التغيير الذي تدخله الحركة على حياة الانسان وحتى على تفكيره واختياراته الحياتية المتشعبة، ابتداءا من المصيرية وانتهاء بالثانوية.
تختلف العلاقة بين المكان والانسان عند المرء المغترب قسرا او الاختياريا، فالاختلاف هنا مهول وموجع جدا بين الاول الذي يتم بارادة شخصية والثاني الذي لا يختلف عن الاقتلاع دون رحمة ليتم طردك من فردوس جذرك حتى وان زُرع هذا الجذر بأرض جافة.
أن التباين بين تأثير الاغتراب الاختياري والقسري على النفس الملتاعة من قهر الوطن، يشبه التباين بين الاسترخاء على ساحل بحر أو الوجود في مكان ملتهب وزاخر باسلحة خفيفة وثقيلة، ارضية، وتتسابق هذه بشدة انفجارها وهول الدمار الذي تتركه، وهذا ما كانت عليه يومذاك جمهورية غربتنا، التي ضمتنا تحت جنحها، (دولة الفاكهاني) التي لم نتخل عن هويتها رغم ابتعادنا عنها منذ سنوات طوال.
هذا التيه، الانتماء، والانصهار بالمكان الغريب، وجدته في كتاب (ترميم الذاكرة) الذي تشكّل جزء من بنائه بهذه البقعة الطاهرة، التي شغلت العالم لسنوات طوال، لتمركز المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها في الفاكهاني وما حوله.
صوّر كاتب (ترميم الذاكرة) التباين وقسوة التغيير او الطرد المتكرر بأكثر صوره وجعا، وبدأ الألم يستيقظ بداخلي وينزف جرحه من جديد، فشعرت، وانا اقرأ خطوط الاغتراب الطويل، بذاكرة صديقي حسن مدن باختناق ترحاله - ترحالنا، من بلد لآخر، وترحالي القسري ايضا بين اربعة دول، حتى اننا مصادفة كنا لمرتين بنفس الدولة دون ان نعرف ان طرق غربتنا وأن تباعدت فأنها تتقاطع غالبا في نقاط خارج حساباتنا وتصوراتنا، لأننا نشترك دائما بمسببات الاغتراب.
فأنا تركت بيروت قبل ايام من حرب 1982 الى براغ لبحث امكانية الأستقرار فيها، لكننا فقدنا اثناء وبعد الحرب، اي خيار للعودة بعدما اندلعت حرب 82 في لبنان والتي نسفت جمهورية حماية المغتربين قسرا، وخلال قراءتي الكتاب اكتشفت ان الصديق حسن مدن قد حوصر مثلنا ايضا في براغ، اثناء حضوره مؤتمرا للشبيبة العالمي في هذه العاصمة، الفرق بيننا أنه عاد الى سوريا وبقيت انا قسرا في براغ، التي لم اتآلف معها ابدا من بين محطات ترحالي الاخرى، وكتبت هذا في كتاب سيرة مغتربة منذ اكثر اربع خمس سنوات، يتعذر علي نشره لانتقادي شخصيات سياسية يعتقد بعض الاصدقاء اني معهم او منهم وانا لا أرى ذلك، لكنه سينشر لاحقا.
*
طرق الاغتراب قريبة وبعيدة، متوازية ومتقاطعة لكنها تقود في النهاية الى محطة لا تسمية لها الا الغربة.
في (ترميم الذاكرة)، التي بدأت تهرم، أعادنا الصديق حسن عبر مفرداته التي نحتها كصائغ، الى مراحل من حياتنا، بدأت في عشرينيات عمرنا، وصولا الى ما يقارب السفح الثاني من العمر، ونحن لا ندرك ماهية الاستقرار ولم نألفه، وكأننا ولدنا بين خرائط البلدان او على ابواب محطات الترحال. هذه العلاقات التي نسجت بين ابناء الغربة والترحال، لها خصوصية لا يدرك قيمتها الا أبناء ألم الوحشة والاغتراب، لأننا، وبسبب فقداننا للعائلة الاصل، شكّلنا من الاصدقاء - الغرباء عوائلنا البديلة، فقد كنا ننجذب الى بعضنا كالمغناطيس الذي جمع أقطابنا حول نقطة الحاجة الى ألفة العائلة او بديلها.
لا أنسى فرحتي عندما عثرت على صديق الذاكرة حسن مدن عبر الفيسبوك، بعد سنوات فراق امتدت لاكثر من اربعين عاما، والذي تغير شكله، كما تغيرت انا، فقد عرفته بدون كوفية بيضاء، وعلى الفيسبوك وجدته مع الكوفية، وكنت في شك من شخصه، لاننا استعملنا اسماء مستعارة اثناء تواجدنا في بيروت، لذلك كتب لي:
- مساء الخير...هل تتذكريني؟ اجبت
- العتب على العمر، هل تعود الى ايام بيروت؟
فأجابني بنعم، وانهالت الذكريات بسرعة، حيث نشطنا،خلال تلك السنوات، كشبيبة وطلبة، رغم اني كنت معنية بالمرأة ونشاطها بشكل اساسي..
هكذا عادت بنا الذاكرة وتم ترميمها بكتاب أرخ لتلك الفترة ولدروبنا التي تتقاطع لكنها تلتقي دائما في محطات الحنين.
(ترميم الذاكرة) سيناريو طويل لمسيرة محطات نزلنا فيها دون اختيار، او اضطرارا، لاننا اقتلعنا قسرا من مكاننا الاول، وعند هذه النقطة سقطت كل الاختيارات وعليك القبول وعبور أي باب يفتح لك، وتبعا لذلك فأنك مسيّر وليس مخيّر على تغيير الكثير من مفرداتك الحياتية وأساسها تبعا للمكان الذي أستقرت به حقيبتك، والتي تختفي منها صور وتظهر صور اخرى، وتختفي فيها ذكريات لتظهر قصص اخرى، وهذا ما جسده كتاب (ترميم الذاكرة) في رحلة ليست لحسن مدن فقط وانما لأجيال واجيال لفظتها بلدانها وشكلت عوائل جديدة وظهر بينهم أبناء لم يعرفوا من بلدانهم الا الاسم فقط، لأن الذي نطلق عليه تسمية الرحم الذي احتوانا بقدسيته، عشنا خارجه رغما عنا لعقود من الزمن فكيف سنعيد من ولدوا خارجه الى دفء ذلك الحنين....
*
عند قراءتي كتاب (ترميم الذاكرة) للكاتب والصديق حسن مدن شعرت للحظة واني أدخل عالم الحكايات السحرية الذي يسحب القارىء الى داخل صفحات الكتاب، كما نراه في بعض افلام ديزني، تداخلت مع صفحات وسطور هذه الرحلة الموجعة والتي عاشها الكثير، لكن قلة أجادت الكتابة عنها.
أشترك مع الكاتب والصديق في بعض المحطات التي تواجدنا بها معا، نحن الذين طردتنا اوطاننا لأن حبنا للمكان الاول، الوطن، لم نستطع استبداله بأرقى الاماكن، ولان علاقتنا به نابعة من رحم لا يمكن استبداله..
حسن مدن من البحرين وانا من العراق، لكننا وجدنا أنفسنا، كل بمعزل عن الآخر، وبسبب افكارنا وتمسكنا بفكرة تحقيق الوطن الآمن كالحلم، بأننا صرنا ضمن سكان جمهورية الفاكهاني، وحملنا جواز البقاء تحت حماية فلسطينية في جمهوريتهم، التي لا تكفي موسوعات لرواية ما حصل فيها.
(ترميم الذاكرة)، سيرة كتبت بلغة ساخنة وبهدوء حكيم عالج الاشكالية التي تبين كيفية تغيير علاقتنا بالاماكن، وتأثير كل جزء من هذه المحطات على ارواحنا وآثار جروح لم تستطع كل عاتيات الزمن ان تمحي آثاره.
وانا اقرأ جمل الصديق مدن شعرت كأنها جملي، وان عالم التيه الذي عشناه منفردين، اشترك بمطارات موقعها بين خرائط ألم الغربة ووجع الوحشة.
(ترميم الذاكرة) سيرة أجيال بينهما مؤلف الكتاب وكاتبة هذه السطور..انها رحلات العذاب والوجع وحقائب ما ملت من الترحال....