اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > أوجاع «اليوم التالي»

أوجاع «اليوم التالي»

نشر في: 11 ديسمبر, 2023: 10:18 م

غسان شربل

تطاردنا منذ أسابيع عبارة «اليوم التالي». وهي حتى الساعة عموميةٌ وغامضة. أغلبُ الظن أنَّ ملامحَها ستتشكَّل من مجموعة عناصر. من الأسئلة التي طرحتها عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

ومن نتائجِ طوفان النار الذي أطلقته إسرائيل رداً على الهجوم غيرِ المسبوق في تاريخ تبادل الضرباتِ بين إسرائيلَ والتنظيمات الفلسطينية. ومن الخلاصاتِ التي استنتجتها الدولُ الكبرى من هذه الحرب التي تدور على شفيرِ انهيارٍ إقليمي واسع. والعبارة غامضة لأنَّ الحربَ لا تزال مفتوحةً؛ ولأنَّ توسيعَ القتلِ لأسابيعَ إضافيةٍ قد يغيّر ملامحَها الحالية أو يرسخها

رفضَ الوزراءُ العرب حتى الساعة الخوضَ في استحقاقات «اليوم التالي» معتبرين أنَّ الأولويةَ يجب أن تكون لوقفٍ فوري للحرب. هذا لا يلغي أنَّ العبارةَ تطرح في الاجتماعات الرسمية، وتتكرَّر في الردهات الدبلوماسية. وأنَّ «اليوم التالي» آتٍ مهما تأخر. تحاول واشنطن رسمَ ملامح ذلك اليوم. تدخَّلت لمنع تحول حرب غزة حرباً إقليمية. قدَّمت لإسرائيلَ دعماً عسكرياً غيرَ محدود. قدَّمت لها أيضاً دعماً سياسياً ودبلوماسياً وصل إلى موقفٍ مستفز بإحباط مشروع قرارٍ لوقف النار في مجلس الأمن على الرغم من مذبحةِ المدنيين والأطفال. تتحرَّك واشنطن لإحياء حل الدولتين وتغييب «حماس» عن مشهد «اليوم التالي».

أظهرت المواقفُ والتعليقات أن لا أحدَ يملك تصوراً تفصيلياً وواضحاً للمرحلة التي ستعقب توقفَ الحرب في غزة. ثمة من يعتقد أنَّ العبارة تعني بوضوح غزةً أخرى لا تكون «حماس» فيها مسلَّحة وفي موقع القيادة. لكن العبارة تزداد غموضاً لدى الحديث عن البدائل. هل تعود إسرائيلُ إلى احتلالِ القطاع وتنصيب إدارة مدنية فيه؟ وهو خيار تعارضه الدولُ الكبرى وتعده نوعاً من الرجوع إلى تجريب المجرب. يضاف إلى ذلك أنَّ موقفَ الرئيس محمود عباس واضحٌ وقاطعٌ وهو أنَّ السُلطةَ الفلسطينية لن تدخل في أعقاب الدبابات الإسرائيلية، ولن تلعب أيَّ دورٍ في مشهد يفصل مصيرَ غزة عن مصير الضفة، ولا ينصُّ على آلية عمليةٍ لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. السلطة الفلسطينية غيرُ راغبةٍ في دورٍ ناقص وخطر، وهي غير قادرة أيضاً. واضحٌ أيضاً أن لا مجالَ لدورٍ عربي على أرضِ غزةَ في اليوم التالي، ما لم يكن في سياقِ قيام الدولة المستقلة. أمَّا اللجوء إلى قوةٍ دولية لإدارة غزة فيصطدم برفض إسرائيلَ في ضوء تجربتِها في جنوب لبنان.

بين الدبلوماسيين المواكبين من يعتقد أنَّ «اليوم التالي» سيبدأ بخيباتٍ ومرارات. نجاح إسرائيلَ في تدمير غزةَ لن يعفيَها من ساعة الاستحقاقات المؤلمة. أدارتِ الحكوماتُ الإسرائيلية المتعاقبة سلسلةً من الحروب لاغتيال مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة قبل ولادتِه. أسهمت في تهميش السلطة وإطلاق المستوطناتِ لالتهام الأرضِ الفلسطينية. تصرفت إسرائيلُ معتبرةً أنَّ الدولة الفلسطينية هي أشبه بعبوَّةٍ ناسفةٍ هائلة ستزرع في خاصرتِها. والواضح اليوم أنَّ واشنطن التي تدعم إسرائيلَ لرسم ملامح المرحلة المقبلة تشترط فتحَ الأفق السياسي بدعم خيار الدولةِ الفلسطينية المستقلة. وهذا الخيارُ يحتاج إلى شريكٍ إسرائيلي لا يشبه نتنياهو وحكومتَه المثقلةَ بالألغام. وهذا يعني أنَّ «اليوم التالي» يمرُّ بالضرورة بتغيير في إسرائيل يتخطَّى الأسماء والأحزاب إلى الخيارات الاستراتيجية. والسؤال هو: هل يمكن أن تتمخَّضَ انتخاباتٌ إسرائيلية جديدة عن حكومة قادرة على تجرّع سمّ الدولةِ الفلسطينية المستقلة بعيداً عن شراهةِ مصادرة الأراضي في ما تسميه إسرائيل «يهودا والسامرة»؟

التمزّقات التي سيثيرها «اليوم التالي» في المجتمع الإسرائيلي ستكون مطروحةً أيضاً وبحدةٍ في المجتمع الفلسطيني ولا سيما في غزة. في 2017 وافقت «حماس» على مبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي عام 1967، لكنَّها أبعدت عن شفتيها سمَّ الاعترافِ بالدولة الأخرى. ومن يراقب المواقف الدولية لا يجد صعوبةً في استنتاج أنَّ قيامَ الدولة الفلسطينية سيكون مشروطاً بالتأكيد باعترافها بدولةِ إسرائيل وبافتقارها إلى ما يمكن أن يشكّلَ تهديداً للدولة العبرية، أي أن تكونَ منزوعةَ السلاح أو بعض أنواعه. هل تستطيع «حماس» في ضوء طبيعتها ومسلّماتها القبول بدولة مرفقة بهذه الشروط؟ وهل أطلقت «طوفان الأقصى» لتتوارى بعده من المشهد؟ وماذا عن النواة الصُّلبة فيها؟ وماذا عن حلفائها؟

ثمة من يعتقد أنَّ «حماس» ستجد نفسَها في اليوم التالي أمام خيارات مؤلمة. ذكرني أحدُ الدبلوماسيين بما حدث في عام 2009 بعد إحدى جولاتِ التدمير الإسرائيلية في غزة. عقد الرئيس المصري الراحل حسني مبارك مؤتمراً دولياً في شرم الشيخ لإعادة إعمار ما تهدَّم. أُطلقت في المؤتمر وعودٌ بمليارات الدولارات. ويقول المتحدثُ إنَّ المليارات لم تصل لأنَّ «حماس» اشترطت الاحتفاظَ بوجودها على معابر غزة، والإشراف على عملية الإعمار. ويضيف أنَّ «إعادةَ إعمار غزة ستكون مستحيلة في (اليوم التالي) إذا بقيت (حماس) صاحبةَ الكلمةِ في القطاع».

سيعيد اليوم التالي طرحَ أسئلة كبرى. هل تستطيع إسرائيلُ أن تكونَ دولةً طبيعيةً بحدود نهائية بعيداً عن الادعاءات القديمة؟ هل تستطيع الإقامة قربَ دولة فلسطينية مستقلة؟ واضح أنَّ العمى السياسي دفعَ الحكوماتِ الإسرائيلية إلى اغتيال فرصتين للتسوية؛ الأولى اتفاق أوسلو، والثانية مبادرة السلام العربية. هذا العمى السياسي ألبسَ إسرائيل حزاماً ناسفاً راحَ ينفجر هنا وهناك. سيطرح «اليوم التالي» أسئلةً صعبة على الفلسطينيين أنفسهم.

ذاتَ يومٍ كانَ الشاعر الكبير الراحل محمود درويش يلاعب أحزانَه في باريس. سألته عن أوسلو فأجابَ أنَّ التسويةَ «تشبه النزول من شجرة الأحلام إلى برودةِ الواقع وموازين القوى. تعني أيضاً حلماً أقل وأرضاً أقل». وأضاف: «عرضنا على الآخر قبوله وتقاسم الوطن، لكنَّه يصرُّ على طردنِا منه».

ما أصعبَ التسويةَ حين تتعلَّق بالأحلام والأرض! لهذا السبب لن تكونَ رحلةُ «اليوم التالي» سهلةً بل مثقلة بالأوجاع والتمزقات. سيكشف ذلك اليوم هول المجزرة التي ارتُكبت على أرض غزة. ولا تزال العبارة غامضةً، ولا تزال الحرب مفتوحة.

· عن الشرق الاوسط

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

دي خيا يثير الغموض حول مستقبله

محكمة مصرية تلزم تامر حسني بغرامة مالية بتهمة "سرقة أغنية"

والدة مبابي تتوعد بمقاضاة باريس سان جيرمان

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram