TOP

جريدة المدى > عام > لسنا بحاجة لعيش أكثر من حياة

لسنا بحاجة لعيش أكثر من حياة

نشر في: 12 ديسمبر, 2023: 11:52 م

لطفية الدليمي

لاأستطيعُ تقمّص كلّ ماأريدُ من الاجساد. لاأستطيعُ عيش كلّ ماأريد من الحيوات. يستحيلُ عليّ التدرّبُ على كلّ ما أريد من المهارات. لكن لماذا أريد كلّ هذا؟ أريد العيش والشعور بكلّ الظلال، النغمات، والتجارب الذهنية والجسدية الممكنة في حياتي... ..

سيلفيا بلاث (1932 – 1963)

تأصيلُ الاشكالية الوجودية

حياتنا مجموعة صراعات. لاحياة تخلو من صراعات إلّا لو كانت حياة مصطنعة وليست حقيقية نابضة. ربما لو عاش المرء في كهف منكفئاً عن معايشة جمرة الحياة الحقيقية، عندها كانت حياته ستخلو من أية مواجهة صراعية. هل يرتضي أحدنا العيش في كهف قصي؟ لاأظنّ ذلك. العيشُ في كهف ليس بالحياة التي تستحقُّ أن تعاش.

الصراعات تتخذ أشكالا متباينة، ولاتتّخذ بالضرورة نمطاً عنفياً. قيل في أحايين كثيرة أنّ الصراع مع الذات هو أقسى أشكال الصراع. أنت هنا تصارعُ ذاتك وليس كائناً آخر فتكون كمن يلتهم نفسه!!

لكن، من أين ينشأ الصراع الذاتي؟ عند محاولة التفكّر في هذه الموضوعة وإحالتها إلى أصل المنبع الأوّل سنرى أنّ أصل الصراع يكمنُ في حتمية إتخاذ خيار بين خيارات كثيرة. الانسان في النهاية ليس سوى مجموع خياراته.

الخلود: مقاربة كلكامشية

لماذا أراد كلكامش الخلود وسعى إليه؟ هل لأنّ الخلود هو الضدّ المنطقي للموت والفناء؟ لاأرى الأمر كذلك.

ماذا يعني الخلود في جانبه الفيزيائي المحض؟ يعني كسر شوكة الزمن وسطوته. الانسان الخالد لن يفكّر بكينونة الزمن؛ إذ لامعنى جوهرياً لفكرة الزمن حينذاك. عندما تكون خالداً لن تفكّر بخسارة يوم أو سنة من حياتك لأنّ أمامك فسحة لانهائية. مالم تعمله اليوم ستعمله غداً أو بعد غد أو بعد سنة أو قرن. لن يهمّك الامر. يبدو طلب الخلود مناورة بشرية من أجل تجريب كلّ أنواع الحياة التي لم نعشها؛ إذ لأجل أن نعيش كلّ هذه الحيوات (لانهائية العدد) سنحتاج زمناً لانهائياً. سنحتاجُ أن نكون خالدين!!

عرف كلكامش الأخدوعة الكامنة في سعيه إلى الخلود. الزمن اللانهائي يعني كسلاً لانهائياً وانعدام الرغبة في أيّ فعل بشري منتج. التخريجة المنطقية هنا قريبة من إحدى مواضعات علم الاقتصاد والسايكولوجيا البشرية: الندرة تعني الأهمية الاستثنائية، والوفرة تعني تهميش القيمة.

كثرةُ الخيارات تزيد منسوب المعاناة

قد تبدو المعادلة أعلاه مغالطة منطقية لكثيرين منّا؛ لكنّ المساءلة الدقيقة لها والتفكّر العميق فيها سيكشف لنا أنّنا باعتبارنا بشراً محكومون بمفاعيل هذه المعادلة. لن أخوض في محاججات تنظيرية إضافية قبل أن أتناول حالة بشرية (مايسمّى في الأدبيات البحثية دراسة حالة Case Study) تلقي أضواءً على هذه الموضوعة.

تمثّلُ الامتحانات العامة (البكالوريا) معضلة وجودية وتجربة يكتنفها الألم والحسرة لدى كثيرين. قد يكون مبعث الألم والحسرة هو إخفاق كثرة من الطلبة في الحصول على درجات عالية تتيحُ لهم ولوج كليات (النخبة) كما تسمّى في أوساطنا الشرقية. الجميع يسعى لكلية الطب أو الهندسة في أيامنا هذه بعد أن كانوا يسعون لكلية الحقوق في العقود السالفة. الهدف واحد: التربّع على قمّة هرم التراتبية الاجتماعية مع كلّ مايقترن به من مال وحظوة إجتماعية. لكن دعونا نفكّرْ في قلّة قليلة من الطلبة ممّن يحوزون مراتب عالية في الامتحانات لكنّهم لايريدون كلية الطب أو الهندسة بل يتطلّعون لدراسة علوم أساسية مثل الرياضيات أو الفيزياء. هؤلاء غالباً مايكونون شخصيات تعيشُ مع أفكارها الخاصة، مع ميل طبيعي للتفكير التجريدي الذي لايهتمُّ كثيراً بمفاعيل الحركة المجسّدة مادياً. من الطبيعي أن نتوقّع في هؤلاء أن يكابدوا معاناة رهيبة؛ فهم من جهة لايريدون الخروج على سياقات تشكّلهم الذهني والنفسي والانخراط في الحالة القطيعية المجتمعية التي تفرضها الأعراف المتواترة المدعومة بسطوة المال والمكانة الاجتماعية، ومن جهة أخرى يتحسّبون كثيراً خوفاً من أن تترتّب على خياراتهم الآنية نتائج مستقبلية مؤذية. ماذا يفعل هؤلاء؟ هل ينقادون لدواعي صوتهم الداخلي أم يستسلمون لاعتبارات الواقع الصلب؟ أتخيلُ مقدار الحزن الذي سيعانيه هؤلاء في كلّ أطوار حياتهم التي سيرونها دوماً حياة منقوصة. مانفعُ أن تكون طبيباً أو مهندساً وأنت منكسر القلب؟ وهل ثمّة في العالم مايستحقّ إنكسار القلب؟

كلّ الحزن الذي عاناه أحدُ هؤلاء نشأ عن إتخاذه خياراً بين خياريْن إثنين فحسب!!: أن تدرس رياضيات أم هندسة معمارية؟ فيزياء أم طب؟ تخيّلوا حجم معاناته لو كان معروضاً أمامه مائة خيار ليختار منها واحداً، ثمّ تخيلوا المضاعفات الجحيمية لو كان أمام ألف خيار مثلاً. كانت حياته حينذاك ستصبح أقرب إلى جحيم أرضي يصعب تحمله. كانت حياته ستمسي حفلة نَدْبٍ مؤبدة على حيوات لم يعشها، وهو في خضمّ هذه المندبة المُرّة ينسى أن يعيش الحياة الواحدة التي أتيحت له (بمعنى: الحياة التي إختارها). بؤس حقيقي بالتأكيد.

قد يبدو أمراً يمتلك مشروعية معقولة إذا مابحثنا عن حيوات لم نعشها؛ لكنّه مسعى مكتنفٌ بالخسران فحياتنا لم تُصَمّم على أساس أن نختار حياة بين حيوات كثيرة معروضة أمامنا في كتالوغ كمن يختار طراز ثياب أو قطعة أثاث. حياتنا الشخصية هي مانصنعه بجهدنا وتفكيرنا ومكابدتنا الجسدية والعقلية؛ ولأجل هذا قيل أنْ مامِنْ حياتين بشريتين تتماثلان.

الثنائية الشرطية للوجود الانساني:

الاختيار والمسؤولية

التخريجة الفلسفية وراء الموضوع تكمن في الآتي: لو سألت أياً ممّن عاشوا أفضل أجواء الحرية المتاحة والممكنة في عالمنا: هل عشت الحياة التي ترغب؟ لكان جوابه في الاعمّ الاغلب: كلا. ثمّة نقص جوهري دوماً: شعورٌ بخطأ ما في مفصل زمني من الحياة ترتّب على خطأ في واحد من خياراتنا. هناك بالتأكيد عدد لانهائي من المتغيرات التي يمكن أن تكون عناصر جوهرية في تشكيل حياتنا التي نرغب في عيشها؛ لكنّ هذه العناصر لن تعمل تلقائياً. يجب أن نسعى لتفعيلها. هنا تأتي الاشكالية – إشكالية مزامنة القرار المناسب في التوقيت المناسب والمتناغم مع الأجواء العامة والقدرات الشخصية.

هذا هو قانون الوجود البشري المتمثّل في الشرطية الثنائية التالية: أن تقبل بعيش حياة واحدة ذلك خيارك الشخصي ولست مرغما عليه، وأن تقبل بتحمّل كلّ تبعات هذا القرار. هكذا تكون إنساناً حقيقياً.

الخيال: تلك المنحة المجانية العظمى

الاستحالة الفيزيائية لاتعني الكفّ عن البحث وإبطال المساءلة في أشكال الحياة التي لم نعشها. الخيال هو ترياقٌ مضاد لليأس والانكفاء والخذلان مثلما هو وسيلتنا المجانية في رؤية مالم نرَ، وعيش مالم نعشْ.

في بحثنا عن المعنى في الحياة يحصلُ في الغالب أن تنتابنا تخيلات مثيرة أقرب لمشهديات فنتازية بشأن شكل وطبيعة مسارات الحياة التي لم نختبرها. هذه الحيوات البديلة التي لم نعشها قد يكون لها زخم الواقع وقوته وسطوته؛ لكن بمفاعيلها الخاصة، وربما قد تكون واقعية بمقدار (واقعية) الحياة التي نعيشها!!.

المعنى والغاية والشغف أهمّ من عيش حيوات كثيرة

لعلّ معظمنا يتفق أنّ لودفيغ فيتغنشتاين هو أحد أعظم العقول الفلسفية في القرن العشرين؛ بل قد يكون أهمّها كما يرى برتراند راسل. فيتغنشتاين سليل عائلة أوروبية فاحشة الثراء، وإثر رحيل والده، قطب صناعة الفولاذ الاوربية، ترك له ولأشقائه ثروة طائلة تعدُّ بمليارات الدولارات بمقاييس زماننا هذا. الغريبُ أنّ فيتغنشتاين آثر أن يتنازل عن كلّ ثروته لإحدى أخواته، ثمّ مضى يعمل في أعمال بسيطة مثل معلّم في مدرسة قروية قريباً من سفوح الألب، ثمّ عمل بعض الوقت بوّاباً في عمارة سكنية!!. حتى راسل الذي أعجب بمقدرة فيتغنشتاين الفلسفية رأى في سلوكه هذا فعلاً أخرقَ عصياً على الفهم.

هل كان سلوك فيتغنشتاين فعلاً عبثياً يفتقد إلى المعنى؟ لاأظنّ ذلك. قد يكون فعله مفتقداً للمعنى من وجهة نظرنا وحسب معاييرنا السائدة؛ لكنّه رأى فيه فعلاً منطقياً كاملاً بل وواجباً. يصعبُ على المرء أن يعتقد بافتقاد حياة فيتغنشتاين – وهو الفيلسوف اللامع – إلى المعنى.

يبدو لي أنّ سؤال (معنى الحياة)، برغم كونه أحد الاسئلة الوجودية الأساسية، يختلف عن سواه من الأسئلة الوجودية الخاصة بأصل كلّ من الوعي والحياة والكون حسب الاعتبارات التالية:

أوّلاً: يتداخل معنى الحياة بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى الحياة. الحياة بذاتها تركيب محايد ليس معنياً بأن يكون له معنى. نحن من نخلع المعنى على الحياة، وهذا المعنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لأن تكون ساحة لفعالية روائية، والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية، ويسري الأمر ذاته مع الآخرين، وكلٌّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية، وتشكّله الفلسفي والذهني.

ثانياً: يبقى (معنى الحياة) موضوعاً لمباحث ذات طبيعة ميتافيزيقية وليست علمية خالصة على النقيض من الاسئلة التأصيلية الثلاثة الأخرى التي يشكّلُ العلم حجر الزاوية في الجهود البحثية عن طبيعتها. السبب يكمنُ في أنّ العلم غير معنيّ بسؤال (لماذا؟) بل بسؤال (كيف؟) وحدَه. سؤال المعنى ليس مكانه المباحث العلمية وإن كان بوسع هذه المباحث أن تساهم على نحو غير مباشر في الكشف عن بعض المناطق المظلمة في بحثنا لإكتشاف المعنى.

ثالثاً: موضوعة معنى الحياة، وبخلاف الموضوعات الأخرى، ليست موضوعة سكونية بل تتباين أشكالها مع نموّ الفرد الجسدي والعقلي. يحصل في الغالب أن يقترن معنى الحياة بمشخصات مادية في أطوار النمو الأولى، ثمّ تنزاح القيمة المادية باتجاه أهداف ميتافيزيقية يصعب وضعها في إطار التقييس كلّما تقدّم المرء في سنوات حياته.

*****

يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا حسب. لنقل كلمتنا ونمضي، نبذل قصارى جهودنا في فعل مانشغف به، ولاننتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل أمر بارع وطيب ننجزه، ونحرص على ربط بواعث سعادتنا بمسببات ميتافيزيقية رفيعة عوضاً عن مُشخّصات مادية سريعة التبدّل والعطب. هذا هو مايخلع معنى على الحياة، وليس كل ماسواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة القناعات الزائفة أو الراحة الموهومة في ارتكاننا لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا.

نحن ننشد الراحة؛ فلن يكون أحدنا كلكامش الساعي إلى الخلود في القرن الحادي والعشرين أو أي قرن آخر. لابأس أن نكون مثال كلكامش الأبيقوري – الرواقي الذي يعيشُ اللحظة حتى أقاصيها ولايفسدُ لذّتها تحت وطأة التفكير بخيارات الماضي الثقيلة وتحسّبات المستقبل المرهقة.

لن نرى كل شيء ولن نعيش أكثر من حياة واحدة. لسنا بحاجة لأن نرى كلّ مافي الدنيا أو نعيش أكثر من حياة.

حياة واحدة تكفي إذا ما اقترنت بالمعنى والغاية، وقبل كل هذا بالشغف. الحياة بمعناها الوجودي مغامرة وليست مقامرة تحتمل الربح والخسارة، وأية مغامرة نختارها سيتحتم علينا المضيّ بها بكل ماتنطوي عليه من وهج وانطفاءات ومتعٍ وفخاخٍ وعثرات عيش تكتمل بها الحياة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram