حيدر المحسن
لو فتّشنا كرتنا الأرضيّة فرسخا فرسخا، لوجدنا اتّفاق جميع الأقوام التي عاشت وبادت أو سادت أن الطين هو المادّة التي صوّرتِ الحياة أوّل مرّة. في الأساطير السومريّة نجد أن الإله أنكي خلق الإنسان من وعاء مصنوع من طين، ليكون خادما للآلهة. وتؤكّد هذه القصّة الأساطير البابليّة واليونانيّة والمصريّة والهندوسيّة والصينيّة، وهناك روايات يعود تأليفها إلى النبي زرادشت، تحكي كيف أن الحياة ابتدأت على سطح عجلة فخّار.
العلاقة بين الجنين الذي ولد من طين وعالمه الجديد لابدّ أن تكون في صورة أخرى، لكنها مشابهة للأولى، أو أنها امتداد طبيعيّ لها، ونرى فن الخزف البدائي يتّجه إلى صناعة القوارير والأطباق والأكواب والجِرار. الإنسان المصنوع من صلصال يطلب أن يرتوي من حميّا الحياة عبر مائدة مماثلة. للشاعرة التشيليّة غابريلا ميسترال (نوبل 1945) قصيدة توضّح هذه الفكرة، ولكن بطريقة الشعر:
في منزل الطفولة كانت أمي
تحمل الماء في جرّة إليّ
ومن جرعة إلى جرعة
لم أكن لأحوّل بصري عنها.
حين أرفع عيني إلى أعلى
أرى الجرّة تبتعد متراجعةً.
إلى الآن وأنا ظمأى...
الصلصال والفخّار اللذان تذكرهما روايات بدء الخليقة يعودان ثانية، يُثبتان أننا جُبِلنا من طين ونار، طالما أنهما يمدّاننا بالغذاء والماء، بواسطة الطبق والجرّة.
للكاتب الأمريكي باري لوبيز تجربة عميقة في فنّ الخزف، توصّل فيها إلى نوع من التفكير يذكره في ملاحظة عابرة، تذهب بعيدا مع هذا الرأي. في بحث عنوانه (الأزهار: ضربة من نار)، يذكر أحد الخزّافين الذين عاش معهم الكاتب، أن الفرن الذي تختمر في ناره الأواني والأكواب، وغيرها مما يُنتجه من أعمال "يتغيّر دائما وهو يتقدّم في العمر، حاله حال البشر". يشبه الفرن إذن بطن المرأة الولود، ما تنجبه في أول عمر الشباب يختلف عنه في آخره، لقد تضاعفت الخبرة وازدادت العفويّة عند إنجاز العمل. لكنهم لم يكونوا يستعملون الوقود في إشعال الفرن، من أجل أن يكون العمل المنشود أقرب إلى الطبيعة، فإنهم يختارون شجر الخروب والحور والأرز والصنوبر والأسفندان والكرز، غابة كاملة اشتركت في سبيل صنع كوب نحتسي منه اللبن والماء. ومن أجل أن يكون اللهب معتدلا، يخلطون مع الحطب أنواعا من الصخور، ويشكّلون الطين المستعمل مع قرون الغزلان وأصداف حلزون المياه العذبة وأجنحة الطيور، ويلفّونها بمواد طبيعيّة – حشائش، ريش، كي تترك الطبيعة آثارها على السطح، بالإضافة إلى الجوهر. يقول المؤلف لوبيز: "وفي تلك اللحظات، ونحن نتنفس عطر شجر الخروب، كنا نجمع التواريخ الإنسانيّة والطبيعيّة المسجّلة في قطع الخشب، وسوف تحترق قصص الخشب في الفرن، وما حدث للأشجار سوف يتشرّبه الخزف". إنها الطبيعة تمدّنا بقوّة الخلق الأولى، ويتعامل الفنّان مع الخزف ككائن حيّ من جميع الوجوه، وما حدث للأشجار والحجارة والطير، سوف يتشرّبه الوليد الجديد. هي دورة الطبيعة نراها كاملة في قطعة مفخورة من الطين لا يتجاوز حجمها رقعة شطرنج، والمعروف عن الأعمال الخزفيّة صِغرَ حجمها قياسا إلى بقيّة الأعمال الفنيّة في الرسم والنحت، فهي مما يتّسعه الفرن، حيثُ يُطبخ الطين على مهل، ويماثل هذا رحم المرأة الذي ينحدر منه كلّ مولود حيّ.
تكشّفت لي دورة الطبيعة التي تحدّث عنها الأمريكي باري لوبيز وأنا أطالع القطعتين الخزفيّتين للفنان فريد وحيد في معرض الجمعيّة العامة للتشكيليين. الحيويّة في فنّ هذا الخزّاف لها، في اعتقادي، سببان: أولا تبنّيه فكرة ولادة الإنسان من رحم الطبيعة الطيني، وقد أخذت حيّزا مهمّا في ما توصّل إليه في تشكيله الخزفيّ، ويلاحظ المشاهد كذلك أستارا من صور لأعمال خزفيّة قديمة وحديثة أدّت إلى أن يعبق هذا التشكيل بشذى غير مألوف من التداخل بين الطبيعة والبشر. لقد مرّ الفنّان عبر ثقافته ودراسته بالتجارب الخزفيّة التي سبق رؤيتها لدى الخزّافين منذ البدء إلى اليوم.
(يتبع...)