د. محمد عطوان
في هذه المُناسبة - الخاصة باليوم العالمي للفلسفة – أود أن أتحدث فيما يجاور الفلسفة، وأعني به الحديث في الفكر اليومي، وفي نقد الفكر اليومي.
كما معروف إن تاريخَ البشريّة العقلي هو تاريخ التتابع اللا نهائي للمعرفة، بكُل ما ينطوي عليه من نتاجات فلسفية واجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية، غير أن هذا التاريخ بما يحمله من معرفة متراكمة غير قادر على التصدي للكوارث التي تُهدد حياة البشرية لأتفه الأسباب.. أعني بذلك الكوارثَ غير المُحتسَبة، وغير المُبرّرة، التي لم تتطرق لها الكتاباتُ التقليديةُ عن انهيار الحضارة أو سقوطها، عندما تتعرض أسسُها للتدهور والانحلال والانحدار والاضمحلال والأزمة والصدع والعمى والتحلّل والفناء ونهايّة الروح الفاوستيّة، الروح التي قال فيها كُل من: نيتشه وماركس وشبنجلر وشفايتزر وتوينبي وكاسيرر وبول كيندي وفوكوياما وباومن وجيجك.. الكتابات التي كانت تكترث بالأسباب والعوامل الموضوعيّة التي تقوض مباني الحضارة، والتناقضات البنيويّة التي تُبرر الوصول إلى حافة المحو الحضاري.. أعني الكتابات التي كانت تطرحُ منطقاً مُبرّراً للزوال والبقاء.. أما والآن فالعالمُ يشهدُ عواملَ تقويضيّةٍ أخرى تافهةً تُهدد مصير الحضارة، تستعملُها القوى الفائقة فيما بينها داخل إطار ما يُسمى بالحضارة المُتمدِّنة، وأنها لتفاهتها لا تتكئ على مقدماتٍ أو مسوغاتٍ قيميّة ومعرفية مُقنِعة للزوال والبقاء، كالتي كانت تذكرُها الدراسات الأثنولوجيّة والاستشراقيّة بشأن مخاطر عودة البرابرة وشرورهم، والعوالق الثقافيّة الدُنيا التي تُهدِد جسدَ التمدين.
أتحدثُ هُنا بالتحديد عن جسمٍ فلسفي تشكّلَ عبر تحوّلات معرفيّة متتابعة في التاريخ، وتغلّغل حضوره في صُلب المؤسسات القانونيّة والحقوقيّة للدول والممالك، وألهم مخيال الجماعات الثقافيّة المُتحضرة، والأفراد، والأقاليم والأمم، وتشربه المفكرون وأساتذةُ الجامعات والمثقفون كقيمٍ إنسانيّة صَلبة ودروسٍ ومثاباتٍ معرفيّة رصينة. وكان يسعُ هذا الجسمَ الفلسفي فرضَ ضوابطهِ وأحكامهِ القيميّة على الجماعات والأفراد أينما حلّوا ووجدوا، فيجعل القواعدَ الأخلاقيّة الآمرة والناهيّة قواعدَ أخلاقيّة مُلزمة للجميع.
أتحدث هُنا وفي ذهني عقلياتٌ تنويريّة ومؤسساتُ فكرٍ كانت تُطلُ علينّا دائماً بكتاباتها العميقة المُتماسكة، وشهاداتِها الفكريّة الحيّة المُناهضة للشموليّة والعسكرة وضروب السلب والعسف والانكار، وبياناتِها الشاجبة للحروب والموت. لكنّ الحالَ كما يقول فيه ايمانويل كانت: "إننا متحضرون بما يكفي فيما يتعلقُ بالأخلاق والتأدّب، وإنّنا مثقفون بما يكفي لتقدير الإنجازات الحاصلة في الفنون والعلوم، لكن ما يزال أمامَنا طريقٌ طويلٌ قبل أن نُصبح أخلاقيّين بامتياز".
أتساءل في ضوء هذه العبارة الكانتيّة: عمن يُمكنه الحفاظ على ما تبقّى من هذه القيم قبل زوالها إذا ما غابت كُل فاعليّةٍ فلسفيّةٍ عن المشهد الإنساني المُتمدن؟ وعمن يحمي الغابةَ البشريّة من افتراس نفسها؟ وعمن يستطيعُ ايقاف السُعار المَرضي للفتك والانفراد بكُلِ شيء ليؤجل وقوع الكارثة؟ سيّما وأن المقولةَ الشائعة ترى إلى أن الحربَ هو ما ترغبُ البشريّة فيه بشكلٍ طبيعي، ولا يمكن تجنُبَها بأي شكل من الأشكال، فحتى لو لم تشنُها أنت فإن الآخرين سيفعلون.
ذكرتُ بأن الورقةَ تنشغل بالحدث اليومي وملاحقة ما يجري فيه، أي: بـ نقد الفكر اليومي، مع أنني لا أحيدُ كثيراً في هذا الانشغال عن التعاطي مع موضوعة الفلسفة شئتُ أم أبيَت، فالفلسفةُ بأبسط صورها هي الانشغال بالأسئلة الأساسيّة العامّة حول الوجود والقيم والعقل واللغة، وهذه المقولات نتعامل معها بشكلٍ يومي ولا يتطلبنا ذلك توافرَ ذخيرةٍ مفاهيميّةٍ فخمةٍ نتزودُ بها لفهم حقيقة ما يجري، فالواحدُ منا يمرُ يومياً ويصادفُ الفلسفي - كمفهومٍ - بصورٍ شتى، بخاصةٍ وقد تراجعت الفلسفةُ واضحت نشاطاً منغلقاً على نفسه أمام فداحة الانتهاكات التي يرتكبها العالمُ المُتمدن.
نواجه هذه الأيام – بدرجة كبيرة - ما يُعكر علينا صفوَ هدأتنا، ولا أعني بهدأتنا نحن العرب أو الفلسطينيين مثلاً، بل أعني العالمَ كُله، نواجه ما يتهددُ وجودَنا كبشر، وهو ما يحضُنا على توليد الأسئلة المُلحّة: ما الذي يحدث في هذا العالم؟ ويستهدف مصيره وقيمه وعقله ولغته؟ أين المتانةَ الفلسفيّة الموروثة منذ زمن سحيق لتنقذنا مما يحدث؟ ما يحدثُ يُجبرنا على إعادة النظر بجدوى الفلسفة من جديد؟
حدثُ غزةٍ واحدٌ من الأسباب التي تدعونا إلى تثبيت هذه المُساءلة، التي تقترح على الفلسفةِ التراجعَ قليلاً خطوتين إلى الوراء لفهم فداحة ما يحدث، بعيداً عن هيمنة نماذجها وقياساتها المُعقدة.. وأعلم وأقدّر ما للفلسفة من عظيم الشأن والمسؤوليّة، كونُها المعمار الكُلّي للسياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد، وكونُها من يقولُ جملتهُ النهائيّة وكلمتهُ الفصل في توصيف الأشياء التي تبدو غير واضحةٍ، فتوضحُها وتجلوها من قبل ومن بعد.
يؤسفني القول إن العالمَ المُتمدن اليوم يتنكّر لجُل القيم والمُثل والاخلاقيات التي انتجها وتعلّمها تاريخياً عن العدالةِ والانصاف والمُساواة والاعتراف، والآخريّة.. يتنكر لما أسماه بوبر "المُجتمع المفتوح"، فيصمتُ أمامَ ما يتهددُ ذاتهِ ومصيرهِ في كُل بُقعةٍ من بِقاع الأرض.. حيثُ يعجزُ المفكرُ فيه والناقدُ والمثقفُ عن قول ما بوسع رجلٍ بدائي قوله عن: إن ما يحدثُ ويتفاقمُ من أفعالٍ هو خارج سُلطان السويّة الأخلاقيّة، ومُنافٍ لقواعد السراطية السليمة.
ثمة نُسخةٌ فلسفيّة جديدة تتصدر المشهدَ الغربي العام، وتُعلي من نبرتها بوجه كُل المعايير التقليديّة السابقة، وهي النسخةُ الأكثرُ سفوراً من كُل ما كُتب وقيل عن عفاف ونزاهة الفلسفة الغربيّة، كما لو كان ما كتبته (هذه الفلسفة) مُجرّدَ تأويلٍ ارجائي لهذا السفور المُنعكس في السياسة والاقتصاد وحروب الصور الثقافيّة المُهيمنة، بكُل ما ينطوي عليه الأمرُ من رداءةٍ وسوءٍ، حتى لكأن فكرة المواطنة الكونيّة التي قال بها فيلسوف فرانكفورت يورغن هابرماس وُجدت لتُعلي من مواطنيّة الإنسان الغربي وليس غيره. والقيم العُليا التي نودي بها في الإعلانات العالميّة والعهود الدوليّة كانت صيغت لتثبيت حقوق الأفراد الغربيين فحسب، والصفات التي خلعها العقلُ الأوروبي المركزي على ما سواه، والتي كانت تشير إلى مسؤولية الرجل الأبيض في تمدين العالم، كان قد خلعها لمركزة وتمدين وعيه وذاته بالدرجة الأساس. هذه المنظومةُ الفلسفيّة والسياسيّة المُضمرةُ يتعيّن - في نقاش عمومي مفتوح - إيجاد ما يقوضُ مبناها داخل العالم الغربي قبل غيره من العوالم.
منذ فترة طويلة، والغربَ تحكمه نزعتان مُتعصبتان، أوّلهما ضاجةٌ بشرورها؛ وميّالةٌ للتمركز والصفائيّة والتعالي، وتربط الشرَ دائماُ بصور المُهاجرين والجهاديين، والفلسطينيين، والمثقفين اليساريين.. وثانيهما الأكثرُ تعصباً وهي نزعةُ الذين تمكّنوا من وضع الشرور كُلها في مشروع الحداثةِ والليبراليّة المتوافقة معه، وأفرادُ هذا النزعةُ ليسوا من المُلوكِ والبابوات والجنرالاتِ والفلاسفة والشُعراءِ والثوّار، بل أربابَ المصارف والمُضاربين والمُستثمرين والمُمولين الذين يتحكمون بتقلباتِ السوق ويدعمون اللا استقرار وما يترتب على ذلك من انعدام الأمن العالمي.. أولئك "الانذال هُم من يحكمون التاريخ" بوصف اندريه بريتون، تكنوقراطيو السوق والسياسة الذين يحوّلون الأزمات العالميّة إلى ما يخدم نجاحَهم؛ من مُنطلق أن منطقَ الاقتصاد هو ذاته منطقُ القوة والسيطرة.
وبالرغم من ذلك ينتظرُ الغربيون المُتمدنون كُلَ البرابرةِ والمتعصبين الكارهين للحريّة خارجَ الأبواب، ينتظرون الحروبَ الباردةَ والساخنةَ الجديدة، والهجماتَ الصاروخيّة التي تَشنُّها روسيا وإيران وكوريا، في حين سيُقتلون وسواهم بهدوء ونجاح على يد تكنوقراطيّيهم المصرفيّين والمُمولين والمُستثمرين أنفسهم. هذه النزعةُ الجانحةُ للشر هي التي ستُعجل في موت الذات الغربيّة قبل موت البرابرةِ والجهاديين والإرهابيين والفلسطينيين.. خطرُ الغرب ليس على العالم فحسب، إنما على الغرب نفسهِ لاسيما عندما نتأمل يبوسةَ أطروحتهِ وضمورَ مضامينها.