لطفية الدليمي
القراءة فعلٌ جوهري في حياتنا. كلُّ مَنْ تخطّى طور الامية الابجدية هو قارئ بصرف النظر عن حجم ونوع ماقرأه. التعليم – وهو منشط أساسي في حياة معظمنا – فعالية تتطلّبُ قراءة. القراءة تتحرّكُ في بُعْدَيْن: عملي ومابعد عملي (هل أسمّيها ميتافيزيقي؟ ممكن بل ومرغوب فيه).
أقصرُ كلامي هنا على القارئ (المابعد عملي) الذي لايرتجي منفعة آنية يقصدُ منها إصلاح عطب في دراجة أو سيارة، أو قراءة وصفة طبية ومعرفة تأثيرات الدواء الجانبية، أو قتل الوقت في ملهاة عابرة. أرومُ الحديث عمّنْ يقرأ طلباً لمتعة لن ينالها في العالم المرئي. يقرأ إستشرافاً لعالمٍ مخبوء في مكان غير متعيّن متطلّعاً لأفكار غير متداولة أو مُفَكّرٍ فيها أصلاً، أو قد يقرأ سعياً لمعرفة مستزادة في عالمنا الذي نعيشه ونتحسّسُ مفاعيل العناصر اللانهائية المؤثرة فيه. أريدُ القول أنّ القراءة الحقيقية تبدأ عندما تُطلَبُ لذاتها وليس تحت ضغط حاجة آنية مادية الطابع. عندما يقرأ أحدنا لإستكمال متطلبات الدكتوراه – مثلاً – وهو قبل هذه الدكتوراه لم يعتدْ على تقاليد القراءة المنظّمة فهو ليس بقارئ حتى لو حاز أكثر من دكتوراه. هذا هو المعيار الموثّق بخبرة مؤكّدة: القراءة الحقيقية تخلق تقاليدها، وليس بقارئ حقيقي من لم يخلق تقاليده. القراءة العابرة التي تأتي عفو الخاطر وبحسب تقلبات المزاج – الذي غالباً مايكون متعثراً ومتقلّباً ولايدفع لقراءة حثيثة منتجة – هي قراءة سطحية لن ترتقي لفواعل مؤثرة في حياة الفرد.
تعني تقاليد القراءة في عالمنا العربي – غالباً – قراءة كتب محدّدة في حقل معرفي محدّد هو الآخر. بالتأكيد يوجد قرّاءٌ يتحرّكون خارج نطاق حقولهم المعرفية فيقرأون بعضاً من الكتب الرصينة التي تفتح آفاقهم على عوالم جديدة (مثل سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أو سلسلة المقدّمات الموجزة الصادرة عن جامعة أكسفورد)؛ لكنْ ثمّة عالمٌ فسيح الآفاق يبدو غائباً عن تقاليد قراءتنا. إنّه عالم الصحافة اليومية و المجلات الاسبوعية.
ربّما نتذكّرُ كثيراً من آبائنا وأسلافنا الذين إعتادوا قراءة الصحيفة اليومية، ولم يفعلوا أكثر من هذا. الحقُّ أنهم لم يجدوا غير الصحيفة اليومية مايمكن أن يكون ملهاة لهم لقلّة عدد المطبوعات في العقود الماضية. هؤلاء كوّنوا (عادات) في القراءة لم ترقَ لمرتبة أن تكون تقاليد. كانوا يقرأون أي شيء وكلّ شيء في الصحيفة اليومية إبتداء من المانشيتات الكبرى وحتى الكلمات المتقاطعة في الصفحة الاخيرة مروراً بصفحة الوفيات!!
تقاليد القراءة لها أهميتها المتعاظمة في عصرنا هذا حيث تتزاحم المنشورات (كثيرٌ منها مجانية). عندما نقرأ مادة في صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية ونرى فيها مادة ذات ثراء معرفي فحينها يمكن أن تصبح واحدة من تقاليد قراءتنا اليومية أو الاسبوعية.
أظنُّ أنّ المشتغلين بالثقافة سيحرصون على تقاليد القراءة الثقافية وإن طعّموها بمواد أخرى. أحرصُ من جانبي على قراءة مواد منتخبة في مجلات (الايكونومست) و (النيويوركر): هاتان المطبوعتان العظيمتان اللتان واصلتا الحراك الثقافي الفاعل منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر حتى اليوم!! لم أكملْ يوماً قراءة كلّ محتويات أية مجلة منهما بل أكتفي بمواد أنتقيها بدقّة. كلٌّ منهما كتاب كامل سُمّي مجلّة. أظنّ أنّ كلّ المجلات الاخرى المنشورة بالانكليزية أو سواها ستكون قزمة لو وضعناها موضع المقارنة مع الايكونومست والنيويوركر. لن أنسى بالتأكيد المجلات الخاصة بمراجعات الكتب: مراجعة لندن للكتب، ومراجعة نيويورك للكتب، ومراجعة لوس أنجيليس للكتب. أفضّلُ الاخيرة لأنها كريمة مع القارئ وتعرضُ مادة للقراءة المجانية أكثر من سواها، وهذا المعروض المجاني يفي بقراءة جيدة لاتتكلّفُ مالاً. لن نقرأ كلّ شيء تنشره هذه المجلات في نهاية الامر، والمعروض المجاني أرفقُ بالجيب ويفي بالحد الادنى من طموحات القارئ.
هذا أمرُ المجلّات وهي ليست مطبوعاتٍ يومية. الامر مع الصحافة اليومية أعقدُ وأكثرُ تطلباً. قد يقرأ أحدنا موضوعات محدّدة في الصحافة اليومية وكوبُ الشاي أو القهوة في يده!! أريدُ القول أنّ الصحافة اليومية أقربُ إلينا من المجلات الاسبوعية، وهي أكثر عدداً وتنوّعاً ومراعاة للاختصار والتكثيف والوضوح والابتعاد عن الفذلكة المفاهيمية والرطانة الاصطلاحية.
منذ عقدٍ ونصف العقد تقريباً وأنا أحرصُ في قراءتي الصباحية على مطالعة ثقافية (الغارديان) البريطانية. أفضّلُها على النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست أو الفاينانشيال تايمز أو الوول ستريت جورنال. (الاندبندنت العربية) هي خياري الثاني بعد الغارديان. حرصت الغارديان منذ نشأتها على الاحتفاظ بروح إنسانية أقرب لنزعة يسارية ملطّفة ومحببة تشي بها عبارتها (الغارديان مجانية، وستبقى مجانية إلى الابد!!). غريبةٌ هذه العبارة في قلب عالم رأسمالي متوحّش. الغارديان تعرض كلّ موادها مجاناً للقارئ ولاتكتفي ببعضها. لن تقرأ في الغارديان بضعة سطور من مادة ثمّ تبدأ الكلمات بالتلاشي لكي تعترضك العبارة (هل تريد إكمال القراءة؟ سجّل إذن). ثمّ أنّ موادها الثقافية نوعية وذات مستوى راقٍ. أؤكّدُ لكم هذا من واقع سنوات عديدة من القراءة اليومية فيها.
أوّلُ بابٍ في ثقافية الغارديان هو باب الكتب، وهو حقل واسع يمكنك أن تقرأ فيه مراجعات للكتب، أو لقاءاتٍ مع كتّابٍ و كاتبات، أو كتاب اليوم Book of the Day، وأبواب أخرى كثيرة. مايعجبني أكثر من سواه في ثقافية الغارديان هو باب الفكرة الكبيرة The Big Idea، وهو عرضٌ إستكشافيٌّ أسبوعي معمّق لتساؤل يكتبه مختصٌّ مشهود له بالمعرفة والخبرة. التساؤلات منتخبة بعناية لتكون قريبة من الاسئلة ذات الاهمية الوجودية الكبرى وليست أسئلة خاصة بالمعيش اليومي العام والعابر. الجواب غالباُ مالايتجاوز الالف وخمسمائة كلمة (ربما أقلّ من هذا)، وينتهي الكاتب بإيراد قائمة من ثلاثة كتب حديثة لمن يشاء القراءة الاضافية في الموضوع الذي كتب عنه. سأثبّتُ بعض عناوين الموضوعات الواردة في باب (الفكرة الكبيرة) في الاسابيع الاخيرة:
- هل ينبغي أن نمحو الانواع الادبية Literary Genres؟
- لماذا يجب أن نُمْضي وقتاً أطول في الحديث مع الغرباء؟
- هل قتل الاقتصاد الرقمي الرأسمالية؟
- هل يوجد مايمكن أن ندعوه (اللعبة الكاملة Perfect Game)؟
- هل يمكننا التنبؤ بمناخ المستقبل؟
- كيف نجعل الاجيال المستقبلية أكثر ذكاءً؟
- هل الذكريات حقيقة أم تخييل؟
- كيف نعيشُ بطريقة أخلاقية في عالمٍ مأزوم؟. . .............. إلخ
لن تخفى دسامة الاسئلة على كلّ قارئ متمرّس؛ لذا تجدُني كلّ صباح إثنين أفتتحُ قراءتي الصباحية بمطالعة الفكرة الكبيرة في الغارديان. إنها متعة كبرى حقاً.
لديّ فكرةُ أن أختار خمسين سؤالاً من هذه الاسئلة وأترجمها إلى العربية. أظنُّ أنّ هذا الفعل سيُغني القارئ الجاد ويمتّعه لحدود غير متخيلة.
أفكار (الغارديان) الكبيرة هي بعضُ نتاج تقاليد القراءة الجادّة، وهي تقاليد قد تفتحُ أمامنا فضاءات مغلقة لم نتخيّلُ يوماً أنها ستكون متاحة لنا.