عبد الكريم البليخ
لم تكن مجرد فتاة جامعية مثقفة وإنما كانت أكثر من ذلك، سعة ثقافة وقوة شخصية ورغبة صادقة في فهم الحياة وزيادة المعرفة، وكانت إلى جوار تفوّقها في دراستها الجامعية تُحب الاطلاع وتهوى القراءة وتحاول كتابة القصة وتتذوق الشعر، ولم يكن اطلاعها قاصراً على العربية،
بل كانت ذات باع واسع في معرفة اللغة الإنكليزية والاطلاع على آدابها، ولذلك كله فإن الحوار معها ـ رغم فارق السنّ ـ كان يشعرني بغير قليل من المتعة والراحة في وقت عزّ علينا فيه معشر الصحافيين أن نجد بين الطلاب من أمثالها من يحسنون حتى إلقاء السؤال أو الاستماع إلى جوابه.
وكانت إذا بدأت حواراً حول موضوع تحرص على أن تحدّد هدف الحوار ولا تحب أن تقفز من موضوع إلى آخر دون أن تستوعب ما بدأته، أو دون أن يصل النقاش إلى غاية، وكانت تضجر من زملائها وزميلاتها عندما ينتقلون من موضوع إلى آخر لا صلة له به، أو عندما يطرحون أموراً تبدو لها تافهة لا تستحق مجرد الإثارة فضلاً عن المناقشة.
جاءتني يوماً تزفّ إليَّ نبأ حصولها على منحة علمية تُتيح لها أن تسافر إلى بلد من بلاد الحضارة تقضي فيها عاماً جامعياً، وكان وجهها يُنبئ عن سعادة غامرة، وهي تسألني الرأي في أمر سفرها واغترابها عن أهلها ووطنها لمثل هذه المدّة الطويلة لأوّل مرّة، وزادت سعادتها عندما وافقتها على قبول المنحة وشجعتها على السفر قائلاً إنّها إضافة ضخمة لحياتك وتجربتك وثقافتك. اذهبي وحاولي أن تحصّلي من العلم قدر ما تستطيعين، وحاولي أيضاً قبل ذلك وبعد ذلك أن تثري حياتك، وأن تعمّقي جوانبها نتيجة لاحتكاكك بأقوام آخرين، وبأنماط من السلوك والتفكير مختلفة عمّا تألفين.
وكنتُ أعرف أنّها خرجت لتوّها من تجربة فاشلة من تلك التجارب التي يمر بها الشباب في مثل سنها، ويحسّون أثناءَها أنّ الكون كله قد توقف عند تلك التجربة حتى إذا انتهت إذا بهم يفاجأون أنَّ الكون هو هو لم يتغيّر فيه شيء قط، وأن هذه التجربة لا تزيد عن أن تكون نقطة مضافة في تيار الحياة المتدفق.
وانتقل بنا الحديث إلى أن سألتني عن الحياة السعيدة، على ضوء ما مرّ بي من تجارب.. فقلت لها إنّ الحديث عن السعادة أمر يضرب بنا في غيابات بغير حدود، وأنا أعرفك، تحبين الكلام الواضح المحدّد، وما أظن أنّ الحديث عن السعادة والحياة السعيدة يمكن أن يكون حديثاً واضحاً محدداً، إذ كيف يكون الوصف واضحاً إن لم يكن الموصوف كذلك؟ ما أكثر ما اختلف الفلاسفة والمفكرون حول معنى السعادة ولا يزالون مختلفين.
أتصور أنّ الحياة الموفّقة تقوم على الاحترام المتبادل، وهو ما يجعل لكل من الطرفين قيمة في نظر صاحبه، فهي أساس صلب الحياة الموفقة، وأوشك أن أقول إنَّ هذا الشعور ضروري للاستقرار النفسي عند الفتاة أكثر منه عند الفتى.. فضلاً عن أنها تقوم على القدرة على التسامح. حياتنا لا يوجد فيها من لا يخطئ، ولا يوجد فيها الكمال، لأنها بطبيعتها محدودة وناقصة.
هذه في ما أرى دائم الحياة الموفقة، إن اجتمعت كان من نتائجها حياة رضية هنية تنتج خيراً، وإن فقدت تهدّد تلك الحياة من المخاطر، بقدر ما نفقده من العناصر الجوهرية.
ـ أما الحديث عن الحب مثله مثل الحديث عن السعادة يدخل بنا إلى الغيبيات من أوسع أبوابها.. الحب هو أعمق ما في الحياة، وأغلى ما في الحياة، وأروع ما في الحياة، وهو لذلك كله، ومن أجل ذلك كله عصي على التحديد والتعرّف. وعندما أصف الحب على هذا النحو، أعني الحب الناضج، ولا أعني تلك الضرورات التي يحس بها الشباب تثور أحياناً ثم تمور وكأنها ما كانت، وهي أمور طبيعية في حياة الشباب لا بد وأن تكون، ولكنها ليست هي الحب، وأخشى أن أقول لك إنَّ الحب نفسه ذلك الاحساس الرائع والعميق، يصعب أن يوجد ويستحيل أن يستمر بغير احترام متبادل وفهم مشترك ومقدرة على التسامح بين الحين والحين.
وثقي أنه ليس أحبُّ إلى نفسي من أن أراكِ أنتِ ولداتك تعيشين تلك الحياة المرضية الموفقة التي يفتقدها في دنيانا هذه كثيرون.