علاء المفرجي
تشير الباحثة نادية هناوي في كتابها(أقلمة السرد العربي من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر) الى ان الأقلمة نظرية نقدية تُعنى بدراسة الأصول والبحث في الجذور وتحديد المهام والوظائف وتعميق الوعي بالواقع الحاضر في الجانبين العلمي والفني معا،
فالأدب المؤقلم هو الادب الذي يمتلك خصوصية نظامية، ولا يعاني من فائض في قوته الإبداعية، لأن القوانين التي تسيّره هي حصيلة تقاليد متحصلة من مجموع كلي انصهر تاريخيا وتمدد جغرافيا فتأطرت مقوماته بحدود معلومة وثابتة، لكنها قابلة للتحول من دون أن تؤثر في ثبوت القاعدة التي بارتكازها يصير النظام خارج الزمان وخارج المكان. وهذا أهم مقوم من مقومات أي أدب يراد إخضاعه لدراسات الأقلمة، يضاف إلى ذلك تلاحم التاريخ بالجغرافيا كمقوم يعطي الأدب قوة ويكسبه قدرة على التأقلم فتغدو تقاليده قابلة للانتقال والتأثير والانتشار بعمومية عالمية.
وعن أهمية الأقلمة تقول الباحثة أن لكل أمة أدبها، ولكن ليس لكل أدب أن يكون ذا خصوصية تنفرد بها أمته، فقد نجد أدبا يشترك في صنعه أدب أو آداب أمم أخرى، وفي هذه الصناعة ما هو منسجم ومنها ما هو متناقض ولكنهما يتعايشان معا داخل أدب مهجن، لا مجال فيه لأي أقلمة؛ لأن لا حدود لهذا الأدب ذاتية ولا أصالة تربط الأجزاء بالكلية، ولا كلية قائمة لوحدها تربط أدبا بآداب ينبغي في الأساس ألا تكون جزءا منه. وصحيح أن كل كاتب يصنع عالمه الخاص ولكن هذا الصنع لا يأتي بمعزل عن العموم الأدبي، فيكون الأدباء على تفاوتهم عبارة عن وحدة مستجمعة لخصوصية ما صنعه المجموع الأدبي، وخلاصته تعيش داخل كل واحد منهم. أما لماذا تعيش فيهم؟ فبسبب ما فيها من رسوخ وقابلية على التطور أيضا. هذه العلاقة الجدلية التي هي في خصوصيتها عامة وفي عمومها خاصة هي التي تصنع قوانين أدب أمة ما من الأمم. وليس شرطا أن يكون الأديب عارفا أنه يشارك أو يستطيع أن يشارك في صنع هذه القوانين؛ فالمسألة ليست قياسية تنطبق على الجميع كي نقارن هذا بذاك أفرادا وجماعات ولا هي رهن بزمن أو مطلب أو عبقرية كي نبحث عن تقييمات نطلق فيها الأحكام سلبا وإيجابا، تشابها واختلافا، سبقا وإتباعا، نقصا وزيادة، أصلا وفصلا، قربا وتباعدا، نصا وتناصا، بل المهم خصوصية الأدب التي تؤهله من ناحيتي الفن والتاريخ لأن يكون عالميا.
وابتدأت الدكتورة هناوي كتابها الصادر حديثا عن مؤسسة ابجد للترجمة والنشر بالتأكيد على أن الأقلمة ليست خاصة بالأدب وحده إنما هو ينطبق على الأديب أيضا، وأن في التراث السردي العربي كثيرا مخفيا، وفيه تُختزن ذاكرة أمة، ومن المهم الكشف عن هذه الذاكرة ومعرفة مخزونها بكلية ما فيه من أنظمة وأبعاد. وهذا هو ما تعنى به نظرية الأقلمة السردية التي اتخذتها د. نادية هناوي مشروعا نقديا ما بعد كلاسيكي. وحددت مفهوم الأقلمة بانها العملية التي يتوافق فيها ما أسسه المبتكر الأول من إبداع سردي ثم تخصص كفعالية منتظمة السياقات ومحددة الأبعاد عبر ما تواضع عليه السراد من أسس وأشكال في نقل الأخبار كأحداث أو أوصاف أو تجارب ضمن نطاق لساني ووضع تمثيلي محددين. وبالاتفاق والمواظبة على هذه المواضعات والاعتياد على الأصول تمخضت قوالب وقواعد وتقاليد. وكلما تقادم العهد عليها، ارتكزت عملية التقليد أكثر وكانت مسوغا للأقلمة كمسارات تراكمت وتوسعت وتطورت حتى وصلت إلى ما نعرفه اليوم بالسرديات الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية التي صارت تفيد من وسائل الادماج والرقمنة بكل وسائطها.
وترى الباحثة هناوي أن ما من سبيل للإلمام بالواقع السردي إلا بدراسته دراسة كلية، فيها تتداخل التخصصات وتتعدد جمعا ما بين علوم السرد وعلوم التاريخ والاثار واللغة والاجتماع والنفس والجغرافيا والانثروبولوجيا فضلا عن علوم الحاسوب وتطبيقاته الافتراضية وغير ذلك من الحقول المعرفية. وهو ما يتحقق في دراسات الأقلمة السردية التي تهدف على المستوى التاريخي إلى الكشف عن اعتمالات الجذور أو الأصول وما يترتب عليها من مواضعات وتقاليد. وتسعى على المستوى الفني إلى تتبع مسارات التطور وتحولاته الفكرية.