د. طلال ناظم الزهيري
في نسيج المشهد التعليمي العراقي، تمثل الدراسة الجامعية الفصل الأخير في حياة المتعلم - رحلة محملة بالعمل الجاد، تتخللها أحيانًا لحظات من المتعة. ومع ذلك، فإن هذه التجربة الانتقالية ليست مجرد رحلة أكاديمية؛ إنها منعطف حاسم يمكن أن يحدد المسار المستقبلي للطالب، ويحدد ما إذا كان سيشرع في المسار المهني المختار أو المسار الذي فرضته عليه الظروف.
ومع ذلك، فإن خاتمة هذه الرحلة التعليمية تتشابك مع التحديات المعاصرة. إن ندرة فرص العمل والمهمة الشاقة المتمثلة في الحصول على عمل يتناسب مع المؤهلات الأكاديمية تلقي بظلالها على هذه الرحلة الطويلة. ومن العوامل المهمة التي تؤدي إلى تفاقم هذا التحدي هو التركيز الواضح على التوظيف في القطاع الحكومي، وهو مجال يتصارع مع مجموعة من القيود الخاصة به. لعل ابرزها حالة الترهل في عموم دوائر الدولة.
وإدراكاً منها للحاجة إلى الإصلاح، وضعت وزارة التعليم العالي العراقية أنظارها على استراتيجية انتقالية – قائمة على تبني فلسفة التغيير، مستوحاة من التجربة الأوروبية الناجحة مع عملية بولونيا. وفي الوقت الذي لا يمكن إنكار أن هذا التحول النموذجي، الذي تم تنفيذه في عموم الدول الأوروبية، ترك علامة ايجابية على أنظمة التعليم العالي الخاصة بها.
ومع ذلك، وبينما يسعى العراق إلى تكرار هذا النجاح، تلوح في الأفق مخاوف كبيرة. لعل في مقدمتها التباين الواضح بين مخرجات الجامعات واتجاهات التوظيف في العراق مقارنة بالدول الأوروبية. ففي الوقت الذي يكون فيه سوق العمل الحر واسع ومتنوع، يواجه العراق سيناريو التوظيف الذي يركز على المهن الحكومية. ويؤكد هذا التناقض الحاد الحاجة الملحة إلى اتباع نهج ذي شقين - معالجة فلسفة التغيير وإصلاح الفلسفة الأساسية للتعليم الجامعي في العراق في الوقت نفسه.
فلعقود من الزمن، التزمت الجامعات العراقية بفكرة تصميم البرامج التعليمية لتناسب المهن الحكومية، حيث غالبًا ما ينظر الى امتلاك الشهادة بدرجة اهم من المهارات المكتسبة في سوق العمل. وقد أدى هذا النهج إلى توجيه غالبية الطلاب في الوقت الحاضر نحو هدف واحد: الحصول على الشهادات من خلال المسار الاسهل، وإهمال تطوير المهارات المعرفية والتقنية الهامة.
وليس من قبيل المبالغة التأكيد على أن كفاءة مخرجات الجامعات العراقية قد تضاءلت عما كانت عليه في السابق. لذا يمكن القول ان الفلسفة السائدة، لم تعد تتماشى مع الواقع المهني، اذ تتجلى مراجعة بسيطة للتخصصات الأكاديمية بشقيها العلمي والإنساني. الى توجيه الطاقات الشبابية وبشكل مؤسف نحو التخصصات التي تفتقر الى فرص التوظيف سواء في القطاع الحكومي أو الخاص.
تتطلب معالجة هذا المأزق إعادة تقييم شاملة لفلسفة التعليم العالي في العراق. ومن الضروري اتباع نهج ثلاثي الأبعاد. أولاً، من الضروري إجراء مراجعة شاملة للتخصصات العلمية والانسانية في الجامعات العراقية الحكومية والخاصة، مع الاستعداد لإغلاق أو تقليص البرامج التي لم يعد لها سوق عمل حقيقي. ثانياً، يعد إستحداث تخصصات بديلة تتوافق مع اتجاهات ريادة الأعمال والسوق الحرة الديناميكية أمراً بالغ الأهمية. وأخيرا، يتطلب التحول العميق في البرامج الأكاديمية نحو المهارات التطبيقية، بما يتجاوز التركيز على الجوانب النظرية، إصلاحا شاملا للمناهج، والهياكل الأكاديمية، وأساليب التقييم.
ومع ذلك، فإن هذه الرحلة الانتقالية تتطلب التزامًا دائمًا بتقييم احتياجات السوق. إن تحقيق توازن دقيق بين مخرجات خريجي الجامعات والمتطلبات المتطورة لسوق العمل هو العمود الفقري لضمان النجاح الدائم في إعادة تقييم فلسفة التعليم العالي في العراق. ومن خلال هذه الجهود المتضافرة فقط يمكن للعراق أن يدخل عصرًا لا يكون فيه خريجوه متمكنين أكاديميًا فحسب، بل يتمتعون أيضًا بالمرونة والتوافق مع متطلبات المشهد المهني سريع التطور.