حيدر المحسن
جميع التعاريف التي قيلت في الشعر صحيحة مئة بالمئة، وقاصرة مئة بالمئة، ولا توجد مقاربة أخيرة له، ويمكننا القول ابتداءً أن الشّعر هو كلّ شيء في الوجود عدا ما يخطّه الشّعراء بأقلامهم، حين تفتقر إلى الصّرامة التي يقتضيها إبداع الفن.
يعرّف النّاقد الأمريكي أريشبالد مكليش القصيدة بأنها "صرخة في الظلام"، وهذا ليس تعريفا وإنما وصفا أدبيا له. ولو قارنّا ما يقوله بورخيس: "الشعر هبة مفاجئة من الروح" بما أتانا به نابليون بونابرت: "الشعر علمٌ مجوّف" لوجدنا أن رجل الحرب كان أكثر قربا من واقع الحياة وواقع الأدب من الشاعر. الشعر إذن علم من غير فائدة، هكذا يقرّر أوسكار وايلد كذلك، فالفنّ بصورة عامة عمل مشلول عديم النفع، لكنه مهم للغاية لأنه يغيّر من نظرتنا إلى الوجود. إذا قرأتَ الشعر تسلَّيتَ، وإذا آمنتَ به انحرفتْ حياتك.
"٢٤ كانون الأول"، هو ذكرى وفاة بدر شاكر السّيّاب، وتحقّق للشّاعر في مثل هذا اليوم ما يدعوه سقراط "بالنّسيان الخالد الذي لا يعكّره اضطهاد أو ظلم"، لأن شاعرنا عانى ربما أكثر من جميع البشر من الفقر والمرض والغربة، وفوق كلّ هذا العيش بين جمهور لا يقدّر الفنّ والإبداع. كان السّيّاب موقنا أنه أتى بشكل لغويّ لا يمزّق خيمة القصيدة القديمة وحسب، وإنما يغيّر شكل الحياة أيضا. الأمر الأهمّ في إنجاز الشاعر، في رأيي، هو ليس القيم الفنّية العديدة والغنيّة في شعره، ولا الانعطافة الخطيرة التي جاء بها، ولكن لأن بدر السّيّاب هو أول شاعر عراقيّ وعربيّ وشرق أوسطيّ يبلغ نِعمةَ أنه يرى نفسه بالصّورة التي سوف ينظر بها النّاس إليه في المستقبل. إنّ أخطر ما يلمّ بالفنّان من محنة هي أن يحسب حجمه أكثر مما يزنه جمهور القرّاء، فيغدو عندَها فنُّه زينةً مفرقعة تنتهي حتمًا وبأجل قصير. الشّاعر العظيم هو من يبشّرنا بالجموح الرّائع، ويعلن للجميع وبوضوح رغبته في رفض الماضي، ويأتينا كذلك بقصيدة يُمكن قراءَتُها بواسطة البصر والسّمع والشّمّ واللّمس:
"مثلما تنفض الرّيحُ ذَرَّ النُّضار عن جناح الفراشة.. مات النّهار النّهار الطّويل فاحصدوا يا رفاقي، فلم يبق إلّا القليل كان نقرُ الدّرابك عند الأصيل يتساقط مثل الثّمار من رياحٍ تهوّمُ بين النّخيل...".
بإمكان القارئ هنا أن يفتح عينيه عميقا ويستاف ويصيخ السّمع. إن غاية الشّعر الحديث هو إحداث أكبر قسط من التّأثير بأقلّ عدد من الكلمات، ويكون له في الوقت نفسه أسلوبه الخاصّ ونظرته الخاصّة، وبهذا يتمكّن من التقاط صور الحياة المجرّدة، وتغذّي هذا العمل موهبة طبيعيّة في الإحساس بالكلمة، وما يمكن أن ندعوه بالحسّ التّاريخي بالأحداث، وغياب هذه الخاصّية يؤدّي إلى انعدام الوعي الإنسانيّ بالوجود، وفي هذه الحالة لا يمكن للتّجربة الأدبيّة أن تكون معبّرة عن الحياة، ويصيبها الفقر والهزال والموت، وإن كانت حقيقيّة وتامّة من النّاحية الفنّيّة.
قضى السّيّاب عُمُرَه القصيرَ وهو يصرخ، ويشكو، ويتذمّر، وكان ينظر إلى أمام وإلى وراء:
"النّارُ تركضُ وراءنا كالخيول أهُمُ المغول على ظهور الصّافنات". كان الشاعر يرى جيوش (المغول الجُدُد) قادمة، وينظر إلى ما سوف يقوم به هؤلاء الغزاة:
"إن متُّ يا وطني فقبرٌ في مقابرك الكئيبة أقصى مُناي. وإن سلمتُ فإنّ كوخاً في الحقولِ هو ما أريد من الحياة. فدى صحاراك الرّحيبه أرباضُ لندن والدّروب، ولا أصابتك المصيبه!".
ولكن عن أيّ مصيبة يدور كلام الشاعر، ذلك أن الفواجع التي عاشها والتي كان ينظرها بعين نبوءته تتالت على البلاد مثل العرائس الرّوسيّة، واحدة تضمّها فاجعة أكبر، وأكبر...؟!
لم تخل أيّ من مراحل التاريخ من شاعر جمع بين عالمي الشعر والسّحر، فالرهبة المقدّسة في الاثنين واحدة، وبهذه الطريقة تكون له القدرة على التنبؤ. لا أريد أن أكون مغاليا بالقول إن بدر السيّاب كان يمتلك شيئا من كلّ ما تقدّم من كلام، بالإضافة إلى الوظيفة الأولى للشاعر، وهي الدفاع عن شرف القبيلة.