لطفية الدليمي
خواتيمُ الاشياء تقترن بالحزن. الخواتيمُ دالة الزمن. عندما تحين الخاتمة فهناك بداية لازمة، وليس الزمن سوى سائل يجري بينهما. هكذا ترى عقولنا الزمن وتتعامل معه. ماالزمن؟ هو وهمٌ سايكولوجي تصطنعه عقولنا. الزمن دوّامة أبدية مصطخبة لابدء لها ولاانتهاء.
هذا مايخبرُنا به وجودُنا المادي المأسورضمن محدودية السمع والشم والبصر. الزمان (وليس الزمن. هنا نحكي عن كينونة فيزيائية) والمكان هما بديهيتا الوجود، العلّة الاولى لكلّ شيء. هما الوعاءان اللذان بهما تبدأ وتُخْتَتَمُ لعبتُنا الكونية. ربّما هما كينونة واحدة. قد يكون المكان زماناً متكثّفاً، والزمان مكاناً سائلاً (على مايرى أكابرُ المتصوّفة والفيزيائيين النظريين)؛ لكنّ الغالب أنّ الزمان هو البديهية الأولى التي تستعصي على التفسير والتأويل والإحالة والاختزال. الزمان قبل المكان وإن كان مقترناً إقتراناً شرطياً به في حدود خبرتنا البشرية.
لن تحضر هذه التنويهات الفلسفية كلّ آنٍ في حياتنا. نحنُ نتعامل مع الزمن بدلالة الوقائع الحاصلة فيه والمقترنة بحزن أو فرح أو غضب أو نشوة،،. خواتيمُ الامور هي أكثر الوقائع تأثيراً فينا. نحنُ مُصَمّمون على التفاعل بصورة دراماتيكية مع الخواتيم أكثر من البدايات. واحدةٌ من أكثر الخواتيم تأثيراً فينا هي إحتفاليات رأس السنة.
ربّما يتذكّرُ بعضنا موضوعاً أخيرا في كتاب القراءة المدرسي عنوانه (حفلة ختام السنة). وفيه يشهدُ التلاميذ حفلة تطهّرٍ أرسطوية حقيقية. يحكي الموضوع عن تفاصيل مؤثرة وكأنه سيناريو مسلسل ميلودرامي، يخاطب مدير المدرسة /مديرَة المدرسة وهي تقف في الساحة التلميذات والتلاميذ بعبارات تستدر البكاء: أبنائي الطلبة، ستغادرون اليوم هذه المدرسة إلى العطلة الصيفية. إحرصوا على الاستفادة منها بأفضل مايمكن. ساعدوا والديكم بأفضل مايمكن،،،، إلخ. في خاتمة المشهد يودع التلاميذ بعضهم على أمل اللقاء في السنة القادمة. يشرع كثيرٌ منهم بالبكاء وهُم يقرأون العبارات الاخيرة. غافلين أنها عبارات إنشائية مثل غيرها، كانت فاصلة شهور العطلة الصيفية تعني للصغار دهراً كاملاً دفع البعض للبكاء وكل خاتمة تستدعي البكاء أو الفرح، وكلا الامريْن (الفرح والبكاء) فعلٌ تطهّري يريحُ النفس المثقلة بأعباء الحياة.
هذا المشهد المدرسي هو ذاته الذي يمارسه معظم سكّان العالم في احتفال السنة الجديدة. المقياس هو المختلف. المدرسة مجتمع صغير؛ أما العالمُ فكبير شاسع. كلّ الطعام والشراب والرقص وإطفاء أنوار منتصف الليل وتبادل التهاني هي مشهديات في حفل تطهّرٍ عالمي المقياس. تتساءل: ماالذي حصل؟ أليست ليلةً مثل الليالي كلها؟ أهي ليلةٌ من ألف ليلة وليلة؟ مؤكّد أن ليلةُ رأس السنة لاتختلف عن مثيلاتها من الليالي إلا في قيمتها التطهّرية. نحنُ نحتاجُ هذا التطهّر، وليست كلّ العوامل المساعدة من طعام وشراب وملهاة واحتفاليات سوى تحفيز لهذا الفعل التطهّري. تريدُ أن تزيح عن كاهلك عبء الادران والمتاعب التي أثقلْتَ بها روحك طوال سنة كاملة، وفي الوقت ذاته تعتزم المضي في إنطلاقة جديدة بآمال جديدة وروح مستريحة. يسائلُ المرء نفسه وهو في قمّة البهجة والتخفف في ليلة رأس السنة: الحياة جميلة وسهلة ومُيسّرة؛ فلِمَ كنتُ أعقّدُها على نفسي؟ لِمَ كنتُ أرى الاشياء بمنظار داكن؟ قد يمتدُّ الامر أبعد من هذا فيعقدُ المرء عهدا على نفسه أن يعيش حياته في السنة القادمة بمثل هذه الخفّة والحيوية والانتشاء العقلي الذي يعينه ليتخيل الوحل الآسن عسلاً مشتهى. هنا اللعبة الخطيرة: أن تحاول تمديد لحظة زمنية بكلّ خواصها الآنية إلى زمن تالٍ. اللعب مع الزمن بهذه الطريقة مأزق مؤكّد. أنت لن تكون في اللحظة الراهنة ذاتك في اللحظة اللاحقة. من العسير أن نتحرّى حجم المتغيّرات التي أثّرت في أدمغتنا خلال هذه البرهة الزمنية الفاصلة بين لحظتين. ثمّ هل نتناسى أنّ إحتفالية رأس السنة هي حالة مصطنعة؟ الحياة ليست مجموعة حالات مصطنعة لأنها في النهاية حالة صراعية. في ليلة رأس السنة نحن نحيّدُ العوامل الصراعية مؤقتا، نكبحها إلى أمد محدد ببضع ساعات حسب. الوقائع كفيلة بتهديم ماعقدنا العزم عليه في لحظة التطهّر. تخيّلوا معي المشهد التالي: لو قضى أحدنا ليلة رأس السنة وعزم على أن يصبح إنساناً جديداً بعقل جديد وروح مختلفة وعيون ترى العالم بمنظور جديد، ثمّ غادر الاحتفال بسيارته، وفي الطريق تعرض لحادثة بسيطة عندما إرتطمت سيارة يقودها سائقٌ منتشٍ بمؤخرة سيارته وأحدثت فيها بعض الضرر. تخيلوا ماالذي يمكن أن يحدث في مثل هذه الليالي التي تشيع فيها هذه الحوادث الصغيرة بفعل انفلات المشاعر وحالات الزهو والثقة المفرطة. سيتحوّلُ القَسَمُ على بدء حياة جديدة إلى مشاجرة تعكر المزاج. يحصل هذا والسنةُ الجديدةُ لمّا تكد تبدأ بعد؛ فكيف سيكون الحال بعد شهر؟ أوبعد نصف سنة؟ هل ستبقى أية عهود أو مواثيق على حالها؟
هل نلغي إذن فعل التطهّر من حياتنا في رأس السنة أو غيرها تحت مسوّغ أن لافائدة ترتجى منه؟ لا، أبداً. فعل التطهّر أساسي لتذكيرنا بخواصنا الانسانية التي قد تتراجع فينا بفعل مؤثرات الصراعوالتحديات التي نعيشها؛ لكنّ الأجدى أن نؤنسن الفعل التطهّري: أن نجعله أقرب لمتطلباتنا الأرضية وليس حالة مثالية نعيشها في برهة فردوسية تلاعبت فيها عناصر إصطناعية بعقولنا وغيّرت من إعداداتها الطبيعية. احتفال رأس السنة حدث عابر واحد والمقاربة المعقولة أن لانطلب من الفعل التطهّري أن يكون إيذاناً ببدء سلسلة أفعال ملحمية في حياتنا. السلوك الملحمي خطير لأنّه – ببساطة – لايصلح إلا مع كائنات ملحمية، والناس ليسوا كذلك. السلوك الهادئ الذي يعوّلُ على مخرجات الافعال الصغيرة هو السلوك الذي ينجح في حياة مصطخبة مثقلة بالمعضلات الفردية والعالمية.
بدل الانخذال من سطوة الوقائع الأرضية وتغوّلها على أفكارنا التطهّرية (التي نراها أنيقة رفيعة باذخة في لحظة إبتهاج) يمكن أن نجرّب فعلاً سلوكياً عملياً قادرا على الاستمرار ولاينكسرُ في أوّل مواجهة مع الوقائع الصراعية الخشنة لحياتنا. قلتُ (فعلاً) ولم أقلْ (أفعالاً). الكثرة تعقّدُ قدرتنا على الايفاء بما اعتزمناه. ليبدأ أحدنا بفعل واحد، ثمّ له أن يتبعه بأفعال أخرى عندما يستطيع الايفاء بمتطلّباتها. فكرتُ كثيراً في هذا الفعل الذي ينبغي أن يسبق كلّ مأثرة أخلاقية ممكنة؛ بمعنى أنّ كلّ الافعال الجيّدة يمكن أن تُشتقّ منه ولن تعمل – بالضرورة – في غيابه. شيء كالنقطة (في الهندسة المستوية) التي يُشتقُّ منها المستقيم والمستوي والاجسام الصلدة. ترى، ماهو هذا الفعل؟
إهتديتُ بعد تفكّر إلى هذه المفردة السحرية: لاتكرهْ. إلغِ مفردة الكراهية من قاموسك. سيقولُ بعضنا: ولماذا لانحبّ بدل أن نكتفي بألّا نكره؟ هذا سؤال لايتسم بالحس العملي الخاص بجموع الناس لا بنخبة مصطفاة منهم. الحب مشقّة كبرى في هذه الحياة. المرء بالكاد قد يحبُّ انسانا واحدا بين هذه المليارات من البشر، وقد ينجح الامر وقد لاينجح.. هل تستطيعُ أن تحبّ كلّ شيء وكل أحد في هذه الحياة؟ هذا فعلٌ لن يستطيعه سوى كائن اسطوري يعيشُ بقوانين تتسامى على قوانين الارض. هل يظنُّ أحدنا أنّ إبطال الكراهية أمر يسيرٌ متاحٌ؟ أبدا، قد نحتاجُ في أقلّ التقديرات ثلاثين سنة من التدريب الشاق والمنظّم لنعتاد فكرة ألّا نكره شيئاً (إنساناً أو فكرة) في هذه الحياة؛ أمّا أن نحبّ كلّ شيء فلاأظنها عملية متاحة لنا وسط هذا العالم الحافل بضروب المنغصات.
نجرب أن لانكره. هذا أفضل بكثير من وعود مثالية يقطعها انسان تملّكته الخفّة والنشوة وسط أضواء إحتفاليات رأس السنة، ثمّ لن تلبث أن تغادره عند أوّل تعامل حقيقي مع البشر بعد زوال الإنتشاء والاضواء.
كلّ عام وأنتم لاتكرهون أحداً أو شيئاً.
كلّ عامٍ وأنتم بخير.