.د. قاسم حسين صالح
شغل (القرامطة) اهتمام الكثير من الكتّاب العرب والأجانب ونشر عن حركتهم العشرات من الكتب الرصينة.وما يعنينا هو ان العقل العربي وضع القرامطة في موقفين متضادين متناقضين:
الأول، يعتبر القرامطة زنادقة وكفرة،والثاني،يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام،وعن هذا التناقض الحاد في العقل الديني وتداعياته،ومقارنته بحاضر و ماض بينهما مئات السنين.. يكون هدف هذه المقالة.
نشأتها الفكرية
تتعدد الروايات في اصل ونشأة وفكر القرامطة،واكثرها شيوعا أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط،من سكنة الكوفة وان اصله فارسي،وانه تأثر مبكرا بالمفكر حسين الأهوازي مؤسس مذهب الأسماعيلية الباطنية،التي تعني الأنتساب الى اسماعيل بن جعفر الذي صار اماما بعد وفاة أبيه جعفر الصادق، ليشكلوا فرقة جديدة في الشيعة انشقت عن من اعتبر موسى بن جعفر هو الأمام السابع بعد أبيه،الذين يمثلون اغلبية الشيعة ويسمون بالأثنا عشرية تمييزا لهم عن الأسماعيلية.
ويحسب لحمدان(قرمط) انه استطاع تحقيق نجاح كبير في العراق في بث الدعوة الأسماعيلية،ونشرها في البحرين باختياره داعيته (ابو سعيد الجنابي).. ومنها الى اليمن والمغرب ووسط وشمال فارس،ليصبح في منتصف القرن التاسع حتى عام 899 م صاحب اقوى حركة سياسية دينية تدعو الى التغيير،وتقيم لها قيادة مركزية سرية في سورية.وكان لمعظم المدن العربية:بغداد، البصرة، مكة، دمشق، حلب،القاهرة.. قصة مع القرامطة.
وتوصف فرقة القرامطة بأنها من غلاة الشيعة،وانها كغيرها من فرق الباطنية اعتمدت عقيدة إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم على أنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوا من تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافق ضلالاتهم وأهوائهم. وهناك من يلعنها لأنها تجاهر بترك الأسلام ويصفها بانها منحرفة وملحدة، وهناك من ينسبها الى الدهرية والزنادقة التي تنكر الرسل والشرائع وتدعو الى الأباحية، فيما يرى آخرون انها حركة انسانية انتقت من الدين تلك الأفكار والمفاهيم التي تساعدهم على تحقيق العدالة الأجتماعية.
ويوصف حمدان هذا بأنه صاحب شخصيّته قويّة،يتمتع بالقدرة على الأقناع،مع أنه كان فلاحا بسيطا.وألاهم هنا انه كان مفكرا وناقدا للفكر الديني،وباحثا عن التغيير.وكان ابرز ما فعله أنه ترك مذهب الأسماعيلية الباطنية وأنشأ مذهبا جديدا يمثل رؤية غير مسبوقة للواقع الذي يعيشه،وعمد في 277هجرية الى تأسيس مركز ثقافي سياسي ديني وقلعة حصينة في الكوفة اسماه دار الهجرة، جعله منطلقا لأرسال دعاته الى الناس..قيل انه كان يستهدف البسطاء من الناس ومن اصله فارسي، واليهود ايضا. ويعد اخوه المأمون وزكرويه بن مهرويه الذي يوصف بكرهه للأسلام.. من اشهر دعاته،فيما يعد ابن عمه وصهره (عبدان) من ابرز مفكري القرامطة.
الأستبداد..يخلق نقيضه
حين تستبد الدولة وينفرد حكامها بالسلطة والثروة..ينقسم التفكير في عقول الناس الى ثلاث فرق اساسي: فرقة عقل الدولة،وفرقة عقل المضطهدين،وفرقة عقل المتفرجين..وتعمل هذه العقول على انتاج افكار تكون فيها الغلبة للفرقة التي لديها القدرة على الاقناع وتأمين متطلبات تحقيق الأهداف.
كان العقل القرمطي يمثل فرقة عقل المضطهدين، لاسيما في قطاع الفلاحين الذين تعرضوا للأضطهاد من زمن الدولة الأموية التي احتضنت الأقطاع وبالغت في فرض الضرائب والجزية على الفلاحين، وازدادوا فقرا زمن الدولة العباسية حيث كان حكامها ينعمون بالثراء وبينهم من كان فاسقا على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد بن معاويه، هو الخليفة المعتمد على الله بن المتوكل الذي كان منغمسا في اللهو والملذات..وظهروا في زمنه.
والمدهش في العقل القرمطي انه سبق زمانه في التفكير بتغيير واقع يدعمه العقل الديني، الى اقامة نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يحترم انسانية الانسان وحقه في حياة كريمة، وتعد افكار حركته اول افكار اشتراكية في التاريخ تهدف لبناء مجتمع ذي علاقات انتاج مغايرة للمجتمع الذي يعرفه المسلمون.
ويذكر المفكر حسين مروة في كتابه(النزعات المادية والفلسفية في الحضارة الاسلامية) بان افكار قرمط قاربت اشتراكية كارل ماركس وسبقتها بقرون،وانها استطاعت التوصل لآّليات تمكّن المجتمع من الفكاك من الازمات الاقتصادية المتعاقبة في العصر العباسي، فيما يذكر الشاعر ادونيس في كتابه(الثابت والمتحول) بان السمة المميزة لحركة القرامطة هي انها حركة تمثل طبقة محددة وتدافع عن مصالحها وتضع من اجل ذلك برنامجا اقتصاديا سياسيا، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية التي ادّعى العباسيون حربهم لاجلها.
ونرى، ان العقل حين يتحرر من الدين في ميدان السياسة، فانه يبدع في انتاج افكار تعالج الواقع بما يحقق انسانية الأنسان،وشاهدنا على ذلك أن دولة القرامطة سبقت دول زمانها وحققت ما لم تحققه الحركات الثورية الحديثة والأنظمة العربية الحالية بألغائها الملكية الخاصة وجعل جميع الاراضي ملكا عاما، وتخصيص عائدية الأنتاج لجميع الأفراد،وبهذا تعدّ دولة القرامطة اول دولة في التاريخ الاسلامي،وربما العالمي، تقضي عمليا على التقسيم الطبقي في المجتمع. وزادت في ذلك انها اعتمدت مبدأ التعويض الاجتماعي،فحين يحترق بيت او محل،تقوم الدولة ببناء ما احترق وتعويض صاحبه ما خسر. ويروى عن القرامطة انه اذا دخل غريب صاحب حرفة ولا يملك عملا،فان الدولة تقوم بتسليفه ثمن ادوات العمل حتى يستطيع كسب عيشه وسدادد دينه دون فائدة، وانه اذا اصاب احدهم فقر او وقع تحت طائلة دين لا يستطيع سداده، فان الدولة تقرضه دون فائدة.
ويحسب للقرامطة انهم اول حركة في التاريخ الأسلامي، وربما العالمي ايضا، تعطي المرأة دورا فاعلا و تساويها مع الرجل في اتخاذ القرارات السياسية العليا الخاصة ببناء الدولة ودعمها اقتصادياً واجتماعياً وأمنيا، وتحريرها من قيود الرجل ومشاركتها لزوجها في العمل وتحمل اعباء المسؤولية، وفتح دورات تعليمية مختلطة لتعلم الكتابة والقراءة، وسنّ قانون منع الزواج بأكثر من زوجة، والغاء المهر العالي وجعله رمزيا. وتزاد دهشة أنها اقامت طواحين مجانية لطحن البذور لعموم الناس بهدف تخليص المرأة من طحن الرحى.
بين قرمط و ماركس!
هناك من يصف افكار قرمط بانها مشابهة لأفكار ماركس،وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي،فيما نرى ان افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين، وان النظام(الأشتراكي) الذي اقامه قرمط، وابو سعيد الجنابي الذي كان عاملا يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس دولة القرامطة في البحرين(855 – 924 م) كان اكثر ديمقراطية من الأنظمة الشيوعية التي اعتمدت فلسفة ماركس. وما ميز قرمط أن اقواله كانت مطابقة لأفعاله.مثال ذلك انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة،وان يتبرع كل واحد منهم بدينار،فاستجابوا له لأنهم كانوا واثقين من انه ينفقها على الفقراء والمحتاجين. والأهم فكريا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان شعور الجميع في الشراكة في المال ينمي لديهم الأدراك بان القوة الاقتصادية هي السبيل الى النصر.
التطرف..قاتل الحركات الثورية
السبب الرئيس في فشل الحركات الثورية في تاريخ الأسلام هو ان عقلها الرافض للقيم والتقاليد والمعتقدات الدينية يكون مشحونا بكراهية الآخر ويدفعها سيكولوجيا الى التطرف.
فبعد ان انطلق القرامطة اواخر القرن الثالث الهجري وخاضوا صراعا طويلا ضد الخلافة العباسية وهددوا ابواب العاصمة بغداد مرارا، وانزلوا هزيمة كبيرة بجيش العباسيين في واقعة البصرة،فان حركتهم انكفأت لتقيد دولتها في جمهورية البحرين القرمطية.وتلك مشكلة الحركات الثورية انها تفشل في الربط بين الفكر والتطبيق. فمع ان القرامطة كانوا في حروبهم التي شنوها في العراق يرفعون رايات بيضاء مكتوب عليها آيات قرآنية من قبيل (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، فان كبار مفكريهم اعلنوا انهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بالجنة والنار، ولهم رأي في وجود (الله) يعدّه خصومهم كفرا.
لكن الأخطر في تطرفهم ما كان خلافا فكريا او فلسفيا او دينيا كتلك التي ذكرناها،بل كان عمليا. ففي العام 317 هجرية توجه (ابو طاهر القرمطي) نحو مكة فخرج واليها طالبا منه الابتعاد عن المدينة المقدسة فعاجلهم بالسيف وقتلهم جميعا، ودخل المسجد الحرام وقتلوا ونهبوا وقيل انه طلب رمي جثث القتلى في بئر زمزم. ثم قام بنزع ستار الكعبة الخارجي وقلع بابها..وقرر ان ياخذ الحجر الاسود، فأخذه وظل عندهم اكثر من عشرين سنة ليضطر العباسيين الى دفع فدية قدرها 120 الف دينار ذهبي فأعادوه الى مكانه عام 337 هجرية.
نكبة عقل التغيير
كان يمكن لعقل التغيير الذي امتاز به القرامطة ان يتحول الى ظاهرة عربية واسلامية يمتد تأثيرها الى حاضرنا المعاصر في اقامة العدالة الاجتماعية التي دعى لها الدين الاسلامي واشترطها العقل المعاصر في النظام الديمقراطي،لكن عصرهم انتهى بعد قرنين من حكم كثرت فيه الجرائم بدافع الافكار المتطرفة، وأخطأ فيه عقل التغيير في ادراك الواقع وتعامل معه بالعاطفة لا بالمنطق، وفرض على الآخر ما رآه هو حقا وعدلا. وكان من نتيجة ما حصل أن (العقل القرمطي)جعل العقل المعاصر متضادا متناقضا في الموقف منه..بين من يصف القرامطة بأنها حركة مغالية، وانهم زنادقة وملحدين وغوغاء ومجرمين،وبين من يصف حركتهم بأنها ثورة الكادحين، وانها تتفق مع الدين الذي يدعو الى تحقيق العدالة الأجتماعية وقول النبي محمد (ساعة عدالة اجتماعية افضل من ستين سنة عبادة)، وبين من يصفهم بأنهم اوائل الشيوعيين في الأسلام.
ومهما تعددت الآراء وتنوعت وتناقضت فاننا نخلص الى حقيقة ان العقل الديني في الأنظمة السياسية عبر تاريخ الأسلام يعمد الى ترويض وتخدير العقل الجمعي ويوظف الدين لبقاء الحاكم في السلطة حتى لو كان على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد او نظيره الخليفة العباسي المعتمد على الله..ويفرز عقلا متمردا يهدف الى التغيير..فتكون المواجهة بين عقل السلطة الراكد، وعقل يقنع صاحبه بان دعوته الى التغيير كصرخة في البرية،وعقل مؤمن بان تحرره من الدين ضمانة اكيدة لتحقيق التغيير.