TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلام غير عادي: سنة رابعة

كلام غير عادي: سنة رابعة

نشر في: 2 يناير, 2024: 11:52 م

 حيدر المحسن

الحياة حين تُكتب تهب لنا حياة أكثر. ها قد مضت ثلاث سنوات عليّ في هذه الخدمة اللذيذة والمبجّلة، وأعني بها توقير الأدب في زاوية أسبوعيّة تظهر يوم الأربعاء في هذه الصحيفة. العنوان الأول للزاوية "كلام عاديّ جدا" بقيَ معي سنة، وكان مختصّا بالنقد الأدبي، و"مرساة" أخذتْ من عمري اثنتين. وجرت منذ ذلك العهد مياه كثيرة تحت الجسور، وغيوم لا تُحصى عبرتْ. هي تجارب تشرّب بها اليراع وصار أشدّ، ويحقّ لي إذن ونحن ندخل عام 2024 أن أصف كلامي بأنه "غيرُ عادي"، بالمرّة...

الكلماتُ عِجْل سائمٌ، وطعامهُ لبنُ الحياة، كما يقول صاحب المثل. إن أغلب ما سَطَرته في السابق لا يرتضيه مزاجٌ مرٌّ تشكّل عندي في فحص النصوص، ونعتني الشاعر سامي أحمد ذات يوم بأني (ذبّاحٌ) أحمل سيفي بيميني وشمالي، أهوي به على الأدب الرديء واللغو والكلام الفارغ بكلّ ما امتلك من حَيلٍ شديدٍ وقوّة. لحسن الحظّ، يزداد هذا المزاجُ مرارةً بتقدّم العمر، وبكُثرة العِشرة مع هذه الصنعة التي تحتاج أن تُعطيها كلّك لتهبك بعضها، التعبير للعالم أبي إسحاق النظّام، وفي هذا البعضِ أنت على خطر.

يسألني الأصدقاء عن جمع المقالات والنصوص التي نشرتها في الصحافة في كتاب، وحاولتُ مرّة وانتهت الجهود التي بذلتها في الجمع والتصحيف والترتيب بالفشل، لأن حوالي ثلثي ما ظهر مني أراه الآن لا يُعتمد عليه بأن يكون كافلا لمتانة النصّ الذي أرجوه وأتمنّاه وأطلبه.

أنتينوس، سميرُ إمبراطور روما، الذي التقاه في آسيا الصغرى (تركيا) وهو في سنّ الرابع عشر، كان يونانيّا ساحر الجمال، ولمّا توفّيَ في العشرين صنعوا له تمثالا من رخام ونصبوه في المعبد. لكثرة ما جرى تلميع التمثال وتشميعه من قبل خدّام المعبد على مرّ الأجيال، يُقال إنه اكتسب نعومة البشرة الحيّة. في التأليف الأدبي هنالك هالة كما زجاج غير منظور تبين الكلمات خلفها، وتُقاسُ حيويّة المفردة المستعملة في النصّ، وكذلك انتماؤها إلى الحداثة في الأدب، بوجود هذه الهالة أو غيابها. يجهد الكاتب ويعمل كثيرا، مثل خدّام المعبد الروماني في تلميع تمثال أنتونيس، من أجل إزالة الغبار والصدأ وبقيّة المهملات من سطح الحروف التي استُعملت كثيرا، وعلى الأديب تقديمَها لامعة كالنّظار على الورق، تشعّ منها هالة القداسة. بهذه الطريقة كان زهير بن أبي سُلمى يحكّ سطوح أبيات القصيدة عاما كاملا من أجل أن يظهر نقاؤها وجوهرها الفائق البهاء، وتبلغ الحدّ والمنتهى في الكمال، لتكون محصّنةً ضدّ الموت وزوال الأشياء. الأمر الأهمّ في التجربة الأدبيّة هو نجاح الكاتب في نقلها إلى القارئ، وتكون جزءاً بالتالي من تجربته. يبدو الأمر صعبا للغاية، لكنه يبقى الرهان الأول والأخير في هذه المهنة المستحيلة. يقول سينيكا: "عندما أكتب إليك، فكأني أستلقي معك في قاعة مستشفى، وأحدّثك عن المرض الذي نعاني نحن الاثنان منه، وأمرّر لك بعض العلاجات. فاستمع إليّ كما لو أنني أكلّم نفسي".

"كون مصغّر" هو عنوان المقال الأول لي في هذا العمود، نُشر بتاريخ 22 12 2020، منهُ أنقل لكم: "النصّ الأدبيّ كونٌ مصغّر بدليل أن تركيب الجملة نحويّاً وبلاغيّاً يتبع نظاماً يشبه إلى حدّ بعيد ترتيب العناصر الكيميائية في جدول "مندليف" الدوري، وكان هذا العالم يستعمل في عمله نظاماً يماثل ثمانيات السلم الموسيقي... الأدب كونٌ مصغّرٌ، وقراءته حياة أخرى نعيشها." ماذا يحصل حين يكون هناك خطأ في نظام هذا الكون، الصغير والأوسط والكبير؟ وأعني بالأول النثر والثاني الشِّعر والثالث كوننا.

السنة التي مضت انتهت، وكنتُ أنوي التوقّف عن الكتابة، ويدي تتأمّل الجملة الأخيرة في زاويتي هذه. الصحافة العالميّة تطلب منّي المزيد، والشِّعرُ والسّرد لا يُريدان شريكا في محلّ العمل، لكن ديونا كثيرة يجب عليّ دفعها إلى بلدي، وأخشى أن تعيّرني بالدَّين قومي، ويكون القصاص مُبهضا للروح، ويحمل وسما على الجبين إلى الأبد، وصار الخيار أن يستمرّ هذا الجهدُ، لعلّه يفي بعضا من الدَّيْن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram