طالب عبد العزيز
ترتضي من الصباح الشتوي بخطى متعجلةٍ، تأخذك الى المدينة، التي لم تُكْمل دورةَ عافيتها بعد، ويتهددها رهطٌ مسلحٌ، مجنون. ومن مركزها المتهالك، بطيئ التحسن، كثير الحجارة والاكياس والعلب الفارغة، تحملك قدماك الى شطها الكبير، قُذف بمائه حجرٌصوانٌ فهو يغسله كلما تغضن جبين موجة عليه،
وجاءت عربات الحمل العملاقة برخام رصيفه من اسطنبول وروما، فبدا مغرياً لخطىً أكثر، لذا، تزاحمت أقدامُ العابرين عليه من كل فج، وقصده الناس، وصار باعة الورد الاحمر يتوقفون عند كلِّ اثنين عاشقين يتخذان من إحدى مقاعده مجلسا. باعة البالونات ايضاً يبحثون عمّن يطير بهوائهم.
في مبتدئ الشارع، عند صدر نهر العشّار يقف الشاعرُ، منتصباً، هذه المرة، لا بلحم وعظم، إنِّما من معدن اسودَ، يركنُ المصطافون حقائبهم عند قدميه، ويتوسلونه نظرة، أو يقرأون ما ظل من أبيات قصيدته بقاعدة النصب. يلتقطون الصور، للذكرى، ثم يكملون سيرهم، متأبطينَ حلمَ شارع جميل، وذكرى شاعرٍ سيءِ الحظِّ، أتى المرضُ باكراً على سنيه الأولى. لم تشأ البلدية رفع البيارق الوطنية التي تصل أعمدة النور بالجهتين، فكانت ألوانها في الشمس أبدى بأعين المارة، وستبدو أجملَ كلما جعلها أحدُهم في حدقة هاتفه. في المدن التي يصطرع فيها قادة الجيوش غير النظامية، تفقد البيارق دلالتها الوطنية، لكنها تحتفظُ باسمائها في أكفِّ الشباب، الذين خرجوا ليلة عيد الميلاد، حاملين الورد لحبيباتهم، أو ثملين، صخّابين، منشدين أملاً، مازال يعبث به غيرُ واحد، في مكان بعيدٍ، غير آمن. هناك، دائماً مَنْ لا يمتُّ بصلةٍ للرصيف الجميل، بناية البنك المركزي مثلاً. صوت الأغنية في منبه السيارة الحديثة يعلو ويعلو أكثر فيما يرِّقصُ أحدُهم ابنته الصغيرة في جوف قاربٍ ظلَّ يتهادى بحُزم الضوء.
الرصيف عريضٌ، ومرسي القوارب بحاجز ملون من الخشب، يهبط أكثرَ كلما كان الجَّزرُ بطيئاً، لكنه يكون باستواء الماء في المدِّ ساعة تجتهدُ امراة جميلةٌ بلون بنطلونها الجينز، وبين المدِّ والجَّزر قمرٌ وساعاتٌ تسعٌ، إنْ كبرتْ برأسك فكرة التجوال والتنزه بالماء لا تبخل بها عليه، فهي يسيرة، وإنْ شئت ان تستمتع بمشهد الراكبين إفعلْ، وما الجولة بباهظة الثمن، لكنَّ القاربَ العشاريّ لا يذهب صاحبُه بكَ أبعدَ من الجسر الايطالي، بأنواره التركواز، هو ينعطفُ قافلاً، ولن تبلغ سورَ قصر الرئيس، الذي لم ينم فيه ليلةً، باتَ أسبقَ وسابقاً، وذهب غير عائد اليه. القصر الذي سكنه الانجليزُ والامريكانُ بعده، ودخله الجيشُ النظاميُّ، لكنه، لم يقم طويلاً فيه، أمّا الجيوش غير النظامية فقد توالت عليه، فهي تدخله وتخرج منه محتربةً مرةً، ومتصالحةً أخرى، وتفوح من غرفاته روائح مشبوهة. لكنْ، لا تثريب عليك، فالرصيف العريضُ برخامه وآجره ونسائه الجميلات سيقودك اليه إنْ شئت، ومن هناك ستحمل صورةً بحيرة، وذكرى زعيم متفسخ.
ظلَّ سائق سيارة الاجرة الذي أعادني في المساء يحدثني عن النساء اللواتي جئن البصرة من المحمّرة وعبادان والاهواز، عن المرأة التي ركبتْ معه، قاصدة ضفة النهر الثانية، كانت تغرضنُ جسدها، وتبحثُ في فوضى الرصيف -لم يشرعْ بعدُ باستعادته- عن لحظة مناسبةٍ، تقطعها اليه. كان السائق يبحثُ ايضاً في عينيها عن لحظته، أما مركبته الصغيرة فقد كانت أقلَّ من سرير مناسب، لعبور إحدى اللحظتين.. ولأنه أمِنَ جانبي فقد اسهبَ في وصف استدارة وجهها، وصبغة شعرها، وطول عنقها، وكمال أنوثتها .. انا أيضاً تماهيتُ معه، مستحضراً ما كان يُسهبُ أخي الأكبر في وصفه من الخمور والحشيش والنساء الجميلات بعبادان، فلطالما حدثني عن مجلسه في الحانة التي لا تبعد عن الشط كثيراً، وعن عبوره بالقارب الصغير، الذي يحشرُ حيزومه بالقصب والحلفاء، ثم يوثق حبله الى نخلة حزَّت السلاسلُ الغليظةُ جذعَها.