اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مالكوم برادبري واستثنائية البحث النقدي

مالكوم برادبري واستثنائية البحث النقدي

نشر في: 6 يناير, 2024: 11:28 م

د. نادية هناوي

تقدم أرسطو( 322 ق. م) على غيره من الفلاسفة الإغريق حين وضع أساسات علمية لدراسة الشعر والسرد في كتابه( فن الشعر) معطياً للتخييل مساحة ومعلياً من شأن الأدبية، واضعاً في ذلك نظريةً وقانوناً ومبدأً.

فأما النظرية فهي نظرية المحاكاة المنقحة للطبيعة، وأما القانون فهو قانون الاحتمال الأرسطي، وأما المبدأ فهو التطهير.

واستمر النقد الادبي يعامل الشعر والسرد بمعاملات أرسطية، ولم يحفل السرد بمثل ما حفل به الشعر من اهتمام نقدي إلا حين دخلت الرواية في أزمة جعلت النقاد يضعون في نظرية الأدب تصورات ساهمت في استقلال( نظرية الرواية) كما تأسست على يد الشكلانيين ومن جاء بعدهم مناهج مقعَّدة ومقيَّدة بحدود معيارية قوامها النظر الموضوعي والتجريد الفكري المؤطرين بحدود لا تتجاوز النص ومتعلقاته الداخلية. فتدشنت بذلك مرحلة جديدة في النقد الأدبي تتجاوز الوقوف عند المؤلف، وتتعدى الضوابط المعيارية التي وضعها النقاد الكلاسيكيون مثل ريتشاردز ونظريته في القيمة، واليوت ونظريته في المعادل الموضوعي.

ولاقت طروحات الشكلانيين مثل بروب وشكلوفسكي وتوماشفسكي وايخنباوم وآخرين صدى كبيرا لما حققوه من طفرة نوعية في النقد الأدبي وتحديدا نقد السرد، ومن ذلك مثلا رأيهم بأن( في تطور كل نوع ثمة أوقات فيها ينحط استخدامه في موضوعات جدية أو رفيعة) و(أن القواعد هي مصدر جميع الشموليات وهي تقدم تعريفا حتى للإنسان نفسه ليس فقط كل اللغات بل كل النظم أيضا تخضع للقواعد ذاتها) وبسبب هذا التركيز على الشكل غدت النظرية السردية موجهة في أبعادها وسماتها توجيها نصوصيا، فكان أن قارب مفهوم نقد الرواية المفهوم العلمي للنقد اللغوي للنص كأهم عمل قام به الشكلانيون وبه عُدّوا مؤسسين لقاعدة سيقيم عليها منظرو السرد البنيوي فيما بعد أوتاد نظرياتهم بكل تمثلاتها ومناهجها.

في هذه الاثناء كان هناك نقاد أمريكيون - مثل برسي لوبوك وديفيد ديتش - يعملون على نظرية الرواية لكن بشكل فردي ومن دون قصدية التباري مع الشكلانيين كما لم تكن لهم مطامح الشكلانيين في التأسيس والبناء، إنما كانوا ينطلقون من تصورات مبنية على ما في الرواية الاوروبية من خصوصية، غير متحاشين التطرق إلى تمثيلات لنماذج روائية روسية وألمانية وفرنسية.

ولم تلق مفاهيم المنظرين الأمريكيين صدى كذاك الذي لاقته مفاهيم المنظرين الشكلانيين المتجايلين معهم في المرحلة التاريخية. والعلة تكمن في أمرين: الأول أن الشكلانيين في عملهم الجماعي كانوا غير متواصلين فكريا ومنهجيا مع هؤلاء المنظرين، ومن أتى بعدهم من النقاد الجدد من مدرسة شيكاغو، والثاني ثقل وزن الكشوفات الشكلانية التي غطت على جهود غيرهم ممن كانوا يعملون فرادى وبتوجهات نقدية مختلفة وكلاسيكية.

وعلى الرغم من التقدم المعرفي الذي حققته نظرية الرواية على يد النقاد الجدد ومعهم جهود المفكرين أصحاب النزعات الماركسية والواقعية كجورج لوكاش وبوريس بورسوف وغيرهما، فان هذه النظرية أخذت بالتحول من الرواية إلى السرد مع صعود المدارس الشكلية الجديدة كمدرسة فرانكفورت ومدرسة براغ والمدرسة الفرنسية البنيوية.

ولم يعن نقاد هذه المدارس بالبحث في تقاليد السرد القديمة، بل عنوا بما بُني عليها من أساليب جديدة واقعية، وأرادوا من الواقعية أن تكون قاعدة - لكنها لم تستمر لعدم صلابتها- باستثناء نفر قليل جداً من النقاد الغربيين، منهم الناقد الانجليزي مالكوم برادبري(1932ـ2000) الذي تبنى آراء، بدا فيها جريئا ومختلفا عن العموم النقدي بناء على بحثه المستغرق في الروايات الغربية المنشورة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومن تلك الآراء اعترافه بشكل غير مباشر بأن( التطورات الروائية الجديدة ساهمت في تشكيلها تطورات سابقة للتقاليد الروائية في بلدان عديدة.) ، ولكنه لم يكن ليصرح بأن هذه التقاليد هي شرقية وعربية، بل لمّح إلى وجود طريقين يقف الروائي بينهما؛ واحد منهما أصيل، جلبه إليه الرعيل الأول من القصاصين الكلاسيكيين والاخر هجين( يمكن مقارنة الروائي اليوم برجل يقف في تقاطع طرق والطريق التي يقف عليها هي طريق الرواية الواقعية، الحل الوسط بين الصيغ الخيالية والصيغ الاستقرائية في الخمسينات كان هذا شعور قوي بأن هذا هو الطريق الرئيس للتقاليد الأساسية التي وصلتنا عبر الفكتوريين والادوارديين)

ومن ضمن ما لمح إليه برادبري هو وقوع رواية القرن العشرين في أزمة تجلت في الواقعية لا كتقليد، بل كقاعدة عليها تقوم فكرة الطبيعة البشرية المتكاملة والفريدة. وهو ما دفع النقاد إلى البحث في الفلسفات الواقعية والظاهراتية والفينومينولوجية عن مخرج من هذه الأزمة. فكان ان هوجمت الفكرة الرومانسية عن الذات الانسانية فتحول الخيال إلى وهم، والحرية إلى حلم. ولم يجد برادبري سببا لرفض اللاواقعية والانحياز إلى الواقعية لـ( أن الابتكار الشكلي في الرواية لا يناقض الواقعية على الإطلاق كما يدعي بعض قصار النظر من النقاد بل انه شرط ضروري للوصول لواقعية أكبر). وما كان للرواية أن تكون جنسا أدبيا لولا تطويرها تقاليد السرد التي قاعدتها لا واقعية. ولما كان أي تقليد هو عبارة عن اتباع الشيء الجديد لشيء قديم، فإن من الطبيعي النظر إلى الرواية كجنس حديث، وفي الوقت نفسه النظر إليها كتطوير لسرد قصصي قديم له أصوله وقواعده الفنية.

وكما أن من غير الصحيح عد الرواية في اجناسيتها مولودة من فراغ، فكذلك لا يعني اكتمال قالبها السردي أنه لم يمر بمرحلة تطوير ما استعاده القاص من تقاليد تعود جذورها الى الحكاية. وهو ما رآه برادبري متحققا عند بورخس الذي عاد بالقصة إلى حكايات ألف ليلة وليلة وكتب الليلة 602 من ألف ليلة وليلة( ولو لم يفعل فلن تكون هناك الليلة الثالثة بعد الستمائة) من هنا تكون أصالة الجنس الروائي كامنة في استعادته للأصول. ولأن أغلب الأدباء تقريبا هم بدرجة أو بأخرى مخلصون لنماذج ادبهم الكلاسيكية فلا يرون في الرواية أصولا استجلبت من اداب اخرى وينبغي استعادتها، لذا عد براديري بورخس شاذا عنهم في سعيه إلى الأصل وتمتعه بالأصالة.

وأحال برادبري كثيرا على كتاب ديفيد لودج( صانعو الخرافة) 1967 وكتاب روبرت كيلوج (طبيعة السرد الروائي) 1966 وأكد أن هذين الناقدين كانا على صواب في رؤيتهما( بأن الرواية هي تركيبة جديدة لأساليب السرد السابقة، وأن الصيغة المسيطرة والعنصر البنائي فيها هو الواقعية فالواقعية هي التي تمسك بالتاريخ والخيال والرمز) ووضح كيف أن الرواية القوطية والرواية الباروكية وقبلهما قصة البيكاريسك انتهجت اللاواقعية، لكن تجنيس الرواية في القرن التاسع عشر جعلها تتخذ الواقعية أسلوبا لمجاراة التطورات المعرفية في علم النفس ولتماشي توجهات الاجتماعيين والسياسيين والاقتصاديين نحو الفرد والواقع. وهو ما جعل بعض الروائيين يجرّبون توظيف تيار الوعي كجيمس جويس وفرجينيا وولف وغيرهما فضلا عن تجريب طرائق روائية أخرى تتقاطع تماما مع الرؤية الواقعية.

وإذ عبّر بعض الروائيين عن مخاوفهم المستقبلية من تلاشي هذا الجنس الجديد وشكك جورج اورويل عام 1939 بأن يكون للرواية مستقبل وكتب مقالته( الرواية داخل جوف الحوت) وعبّر غيره بجملة( استنفدت شهرزاد حبكها واستمرت في الحديث وأصغى الملك وحار) وظل الأمل معقودا في الخروج من الازمة على كتّاب تيار الوعي، فإن برادبري وجد في "جيمس جويس" انشتاين الرواية بينما لم يجد في تنظيرات الشكلانيين ما يسمح بحل الأزمة سواء من ناحية الأشكال الفنية وتجديدها أو من ناحية إعادة صياغة الأنواع الرديئة من الفن. واختلف برادبري مع نقاد آخرين وضعوا أملهم في ضمير المتكلم بوصفه المعقل الأخير للرواية في مواجهة السينما، مؤكدا وجود( حركة ملموسة في السرد الأدبي لإنتاج تركيب جديدة من الأسلوبين الاستقرائي والخيالي. ونتج عن ذلك ظهور الرواية في القرن الثامن عشر.. انه يمنحنا مادة تؤكد الحدس الغامض لدينا بأن الرواية تشكل بالنسبة للحضارة الحديثة ما كانت تشكله الملحمة للحضارة القديمة، ومن الأفضل ان نقول إن الرواية هي تركيب جديد لتقاليد سردية سابقة على ان نقول أنها استمرار لواحد من هذه التقاليد أو القول إنها ظاهرة جديدة غير مسبوقة وذلك يرجع تشكل الرواية بتنوعه الكبير وشموليته).

إن غاية برادبري من هذا التلميح الى الأصول هو تأكيد حقيقة تشكل الرواية كجنس جديد من التطوير الذي جرى على تقاليد السرد القديم وبدءا من أواخر العصور الوسطى وعصر النهض

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram