اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > التوأمين: محمد شرارة وحسين مروة

التوأمين: محمد شرارة وحسين مروة

نشر في: 16 يناير, 2024: 11:51 م

بلقيس شرارة

أكتب عن هاتين الشخصيتن الكاتب والشاعر محمد شرارة والكاتب والأديب حسين مروة، اللذين أطلق عليهما بالتوأمين، إذ كان لهما نفس الخلفية في جنوب لبنان، فقد بُعثا في سن الرابعة عشر من عمرهما إلى دراسة العلوم الدينية في النجف.

وقد ثارا على النظم والجمود في طريقة التدريس، كما انتقدا المنهج الدراسي الذي كان يدرس في المدارس الثانوية في العراق، وخاضا المعارك السياسية، ضد سياسة الحكومات أثناء العهد الملكي من خلال كتاباتهما، مما أدى بمحمد شرارة إلى السجن، وإسقاط الجنسية عن حسين مروة، لكنهما رغم ما تعرضا له، استمرا في تمسكهما بالقيم والمثُل التي يؤمنان بها.

تعود علاقة حسين مروة بوالدي إلى عام 1924، عندما التحق حسين مروة بالمدرسة الدينية في النجف. إذ كان والدي محمد شرارة قد بعث من قبل عائلته ليدرس العلوم الدينية في النجف في عام 1920، ولكي يصبح قاضياً في بلدته بنت جبيل في المستقبل. وكان والده هو المسؤول عن تكاليف دراسته، بينما مرّ حسين مروة بمعاناة. وذكر: (وحضرت جلسات "اليد" مع وجوه العائلة وكنت في صمتي أراقب ما يجري وألاحظ حركاتهم وتعابير وجوههم. ومن ذلك خرجت بأن أغلبية هؤلاء كانوا يدفعون حياء السيد. كنت ألحظ التذمر والتردد ومحاولة النكوص في وجوههم. لكن فرحتي بالسفر غطت على الألم الذي أحسست به في أعماقي).

والتقى والدي به في ذلك العام وتوطدت العلاقة بينهما إذ كليهما من جنوب لبنان، وقد قاسى وعانى أهالي جنوب لبنان أثناء الحرب العالمية الأولى من الجندرمة الاتراك، وقد ذكر حسين مروة عن عنف الجندرمة لتحصيل ضريبة الأرض أو (حين كان الجندرمة الأتراك يغشون الضيعة ليأتوا بالمطلوبين للخدمة العسكرية، فكان أهل القرية يتفقون على مصطلح معين ينذر بوصول الجندرمة.. فيصيح الأطفال "عباية عباية" فيهرب المطلوبون).

وبعد بضع سنوات من الدراسة الدينية، ثار محمد شرارة على النظم والركود الفكري والتزمت الديني مع عدد من زملائه، واسسوا في 1925 "جمعية الشبيبة العاملية" وهي جمعية أدبية فكرية، تهدف الى مناهضة الاسلوب القديم في الادب وترفض كل ما يعيق تطور هذا الأدب ويمنعه من مواكبة حركته التجديدية. اذ كان تأسيس جريدة أو مجلة يعتبر حرام، واعتبرت المدارس الحديثة كفر وحرام. كما كانت طريقة التعليم في المدارس الدينية هي الاطلاع على النصوص وتقديم توضيح أو تأويل، وعندما اطلعا على تطور العلوم في الغرب، وجدا ان المعرفة هي ليست فقط في تأويل النصوص وتبريرها، وإنما أهم من ذلك، هو ابتكار موقف جديد في تعليل وتفسير الظواهر. اذ كانت المدارس الدينية، لا ترتبط بنظام معين ومنهج موحد كجامعات أوربا، بل كان كل استاذ يدرس حسب اجتهاده في النصوص الدينية.

وانتمى إلى الجمعية معظم شباب جبل عامل الذين كانوا يدرسون في النجف، كما انتمى إليها عراقيون، من بينهم الشاعر محمد صالح بحر العلوم وعبد الرزاق محي الدين وغيرهم.(محمد شرارة كاتباً و انساناً، د حسين مروة، وجوه ثقافية من الجنوب، 1981).

وبعد ان تخرجا وحصلا على الشهادة، بعد ان قضيا 16 عشرة عاماً في الدارسة، ترك كليهما الدراسة الدينية، وخلعا العمامة، وتعينا كمدرّسين في سلك التدريس في مدينة الناصرية. لم يكن حسين مروة مسروراً، حيث اعطاه مدير المدرسة حصصاً قليلة، وشعر محمد شرارة بالغبن الذي لحق بصديقه، قياساً إلى ما كان يتمتع به بعض المدرسين العراقيين من امتيازات بسبب أسم العائلة وليس عن الكفاءة. لذا انتقل حسين مروة بعدها إلى مدينة الديوانية، وكتب والدي في إحدى رسائله (كنت اظن ان هذا النقل سيسره لأنه جاء بالفرض الذي كان يتطلبه، وإذا هو يشكو مرّ الشكوى ويقول " إن الحياة كلها هنا لا تعادل مشية معكم إلى محطة القطار"، ويشكو أيضاً من كثرة العمل وهو نفس ما كنت اشكو منه أنا في السنة الماضية). (رسالة بعثها محمد شرارة إلى جعفر الخليلي في 5/5/1938)

وعلى اثر ذلك سافر محمد شرارة الى الديوانية لزيارة حسين مروة، وكتب مقال بعنوان" ليلة القطار" من خلالها أعطى فكرة عن الفوضى المتفيشة آنذاك في الموصلات بين المدن العراقية، حيث كان القطار من وسائل النقل المهمة بين المحافظات، فلم تكن السيارات الخاصة متوفرة إلا عند عدد قليل من الناس.

وفي الاربعينيات من القرن الماضي، انتقل كل من محمد شرارة وحسين مروة الى بغداد، وسكن حسين مروة وعائلته في الكاظمية واصبح مسؤولاً عن تحرير "جريدة الساعة" لصاحبها "صدر الدين شرف الدين"، وفي نفس الوقت مدرس اللغة العربية في "مدرسة شماش"، وهي مدرسة للجالية اليهودية. أما محمد شرارة فتعين كمدرس اللغة العربية في دار المعلمين الريفية في الرستمية أولاً ثم انتقلت إلى الكرادة الشرقية.

وعاد اللقاء بينهما، خاصة يوم الخميس حيث كان حسين مروة مع ابنه نزار وابن أخيه كريم مروة، يحضرون الندوة الشعرية التي كانت تقام في دار محمد شرارة، وكانوا يقيمون أحياناً أياماً مع العائلة. وكانت الندوة حوار عن تجديد الشعر وقد كتب الشاعر بدر شاكر السياب آنذاك عن إن (الشعر الحر اكثر من اختلاف عند التفعيلات المتشابهة بين بيت وآخر. إنه بناء فني جديد، واتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الميوعة الرومناتيكة وأدب الأبراج العاجية وجمود الكلاسيكية، كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي اعتاد عليه الشعراء السياسيون والاجتماعيون الكتابة).

وكان كل من حسين مروة ومحمد شرارة اول من شجعا الشعر الحر وأبدا اعجابهما، وكان يهمهما (الابداع بالدرجة الاولى وروح الخلق والفكرة في الشعر، وليغير الشاعر بعدما يشاء في القافية والتفعيلات لكي يعّبر عن أفكاره وخلجات نفسه في شكل حر). وشكلت الندوة الشعرية بداية النهضة الشعرية وتركت أثارها على الشعر الحديث ليس في العراق وإنما في العالم العربي. واصبح كليهما جزءاً من الحياة الأدبية في العراق.

استمرت الندوة الشعرية حتى عام 1948، أي حتى توقيع معاهدة بورتسموث. التي شعر الشعب العراقي انها إجحاف لحقوق العراقيين. خرجت المظاهرت التي عرفت "بالوثبة" ضد المعاهدة، فاستشهد فيها جعفر الجواهري، شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري، كما شارك حسين مروة في الوثبة وشهد فصول الانتفاضة الشعبية يوماً بيوم. وكتب عنها: (كنت اسير في التظاهرات واكتب مقالاً يومياً في جريدة "الرأي العام" للجواهري. كنت حريصاً ان تنجح الإنتفاضة خائفاً من أن تغرق في الفوضى والصراعات الجانبية، لذا كنت أراقب اجواء التظاهرات خشية ان تنشز أو تختل أو تضطرب، وما يترائ لي ان شخصاً يخرب أو يشوش حتى أتصل بقادته وأرشدهم إليه ليكبحوا جماحه.. ومن هنا تكّون عندي ميل للشيوعين يتقاطع مع نظرتي المادية وموقفي الوطني، ومن هنا بدأ تحولي الحاسم إلى الشيوعية). لكنه لم ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

أما محمد شرارة فقد كتب في تلك الفترة عن الوثبة، كما كتب مقال عن الجواهري بعنوان: "شاعر الكفاح العربي"، (وثبة الشعب في سنة 1948 واحباط معاهدة بورتسموث، لوحة من أروع اللوحات الفنية في قصائد الجواهري)، ويقصد بها قصيدة الجواهري بأخيه جعفر:

أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم

فم ليس كالمدعي قولة وليس كآخر يسترحم

عاد نوري السعيد لتشكيل الوزارة بعد "الوثبة"، وفقد العراق نسيم الحرية التي تنفسها خلال الحرب العالمية الثانية وتراكمت الغيوم في اجوائه بعد اعتقال وسجن المفكرين والسياسين البارزين، والقي القبض على محمد شرارة، والجواهري وبدر شاكر السياب وغيرهم من الشعراء والمفكرين، كما فصل بعدها من الوظيفة عام 1949، ونقلت دار المعلمين الريفية إلى محافظة بعقوبة لأن طلبتها شاركوا مشاركة فعّالة في المظاهرات.

أما حسين مروة فكان عقابه أشد من ذلك، فقد اسقطت الجنسية العراقية عنه وأبعد عن العراق في منتصف عام 1949، بسبب مقال نشره بعنوان: "العقل والعاطفة عند نوري السعيد" رداً على دعوة نوري السعيد الناس إلى التعقل. بعد أن أصبح نوري السعيد رئيس الوزراء، كما اعتقل صدر الدين شرف الدين وأسقطت الجنسية عنه، بعد تعطيل جريدته "الساعة".

كان إسقاط الجنسية عن حسين مروة وعائلته، ضربة قاسية سددت إلى عائلة شرارة، وشعر جميع أفراد العائلة كأن عضواً مهماً قد بُتر من جسد العائلة، وقضت العائلة آخر أسبوع قبل السفر في دار محمد شرارة. وعندما حان موعد السفر، احتشدت العائلة وأصدقاءهم أمام عربة عائلة حسين مروة، ولاحت المناديل تهفو، كما كتب محمد شرارة في إحدى قصائده "كل منديل به من رعشة التوديع روح". لكن فراق حسين مروة ترك في اعماق محمد شرارة أثراً عميقاً.

واسس حسين مروة في بيروت، مجلة "الثقافة الوطنية" كما انتمى إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1951، الذي كان أحد أحزاب الحركة الوطنية في لبنان. كما كان يكتب في جريدة "الحياة" لصاحبها "كامل مروة" حيث كانت اتجاهاته الفكرية تتناقض والتوجه العام للجريدة.

عاد حسين مروة إلى بغداد في عام 1959، والتقى بوالدي بعد غياب عقد تقريباً، لكن بعد عودته بشهر، حدثت محاولة انقلاب فاشلة في 8 آذار 1959، بهدف الإطاحة بعبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك، وقتل عدد كبير من الشيوعيين، وأصبح الإنتقام هو القاعدة. وقد عانى اليساريون والشيوعيون بدورهم من التهديد بالقتل والأغتيال، وكان أول من أغتيل هو "كامل قزانجي" لذا عاد حسين مروة الى لبنان، كما أضطر والدي السفر إلى لبنان أيضاً، للتهديد الذي وصله بالإغتيال.

كانت آخر مرة ألتقي بحسين مروة عندما دعي لبغداد عام 1968، لحضور الأحتفال الذي أقيم بمناسبة الأربعين بوفاة كامل الجادرجي، وكان كمال جنبلاط من جملة المدعوين أيضاً.

بدأت الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975، وبعد عامين أغتيل كمال جنبلاط في عام 1977 وحسم موته مرحلة في الحرب اللبنانية التي كانت دائرة آنذاك، واعتبرها محمد شرارة انتكاسة للحركة الوطنية، إذ كان له دور بارز في جمع شتات الحركة الوطنية، حيث كان لبنان في أمس الحاجة إليه.

في عام 1979 اصيب والدي بجلطة، وتوفي بعد عشرة أيام في بغداد، واقيم له تأبين في الكاظمية، وفي بيروت، وشارك فيه عدد من الشعراء والادباء من بينهم ميشال سليمان والدكتور علي سعد واحمد الزين وغيرهم. وكتب حسين مروة عنه مقال بعنوان: (محمد شرارة كاتباً وانساناً، د حسين مروة، وجوه ثقافية من الجنوب، 1981).

ظلت الحرب الأهلية مستعرة، وظل القتل على الهوية مستمراً، أما حسين مروة فاستمر يكتب في مجلة "الطريق" التي كان يشرف عليها أيضاً، كما كتب أهم كتاب له "النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية"، ومازال هذا الكتاب من المراجع المهمة، في تحليل وتفكيك التراث العربي الإسلامي، واعتبره البعض من الكتب التي تؤسس نظرة جديدة في تاريخ الفكر الإسلامي.

وفي عام 1987 جاء شخصان إلى الشقة التي يسكنها حسين مروة، مدعين انهما عضوين في الحزب الشيوعي ففتح لهما الباب، وتوجها إلى غرفته، وأطلقا النار عليه، رغم تقدمه بالعمر ومرضه. فقد أطاحت الحرب الأهلية التي دامت عقداً ونصف، بعدد من المفكرين والمناضلين الذين أَثْروا ثقافة لبنان، وكان حسين مروة أحدهم الذي يُعّد من ابرز التنويريين العرب المهتمين بالفكر الاسلامي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram