TOP

جريدة المدى > عام > الزمن والقراءة

الزمن والقراءة

نشر في: 17 يناير, 2024: 12:00 ص

كه يلان محمد

بادر الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل إلى تصنيف القراءة فنا.ً وإذا وافقنا على هذا الرأي بالتأكيد تنضمُ القراءة إلى الفنون الزمانية على غرار الموسيقى والمسرح فالكتاب لايكونُ موجوداً بالفعل إلا في حالة القراءة وبالطبع أنَّ هذه العملية تستغرقُ زمناً يتفاوت من كتاب إلى آخر.

لكن هل تنفدُ صلاحية الكتاب مع نهاية زمن قراءته؟ لاشكَّ إن هذا السؤال لايخلو من المكر ويضمرُ نفساً نفعياً لايفصلُ بين الأشياء وقيمتها الاستعمالية غير أنَّ سياق الكلام يفرضُ مناقشته كذلك فإنَّ الواقع الذي يضجُ بالتسابقِ على الاستعراض المادي يثيرُ الريبة بشأنِ جودة المفاهيم التي لاتعبرُ بالضرورة عن العقلية الريعية وبالتالي فإنَّ عالم القراءة وفق هذا المنطق لايكونُ مطابقاً لمواصفات مايتطلعُ إليه الرؤية الأداتية ولاتفتحُ لك العناوين المُضافة إلى رصيد الاكتشافات المعرفية الباب على بلاد العجائب والمُغريات المُبهرجة وهذا نوع جديد من الاغتراب.وفي الواقع إنَّ القطيعة مع التيار السائد تزيدُ الوعي حدةً بحقيقة المُعطيات والدوافع المُحركة للمشهد على وجه العموم. واللافتُ للنظر في الصورة هو من يبحث عن موطيء القدم تحت يافطة الفكر والثقافة في هذه الأجواء الكرنفالية بامتياز هل يجدُ نفسه مكلفاً بإدارة دفة الأمور نحو وجهة مُختلفة ويصلح مايراه فاسداً؟ أو لايهمه سوى الأخذ بظاهر الأشياء والترنم بمقطوعة غالبة على الجوقة؟ و في المحصلة يريدُ حسن توظيف مُعداته المعرفية ليمضيَ خطوة أخرى نحو واجهة العرض؟ مايجدرُ بالإشارة في هذا الإطار هو أنَّ القراءة شأن شخصي والقرار يعودُ إلى إرادة الفرد بأنْ يكون مُنخرطاً في زمنِ يستمدُ خصوصيته من التحرك على خارطة تتمددُ باستمرار.وكما قالت الروائية العراقية لطفية الدليمي " اقرأ 100 كتب أو ألفاً. لن يعني الأمر شيئاً للآخرين، وليس في هذا الأمر مأثرة لك. الأساس هو أن تقرأ وتتلذذ بما تقرأ وتجعله خبرة مضافة لك" إذن كونك قارئاً نهماً لايعطيك الأفضلية على الآخر ولايعني بأن لك الحقَ بالتدخل والإدلاء بالآراء في كل شؤون الحياة.تتقاطع رؤية صاحبةُ "سيدات الزحل " لمفهوم القراءة مع فحوى ماقاله الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير عن الطابع الشخصي في الكتابة "قد ألزمتُ نفسي بالكتابة لنفسي وحسب لأجل متعتي الشخصية.مثلما يدخن المرءُ أو يمتطي الحصان لأجل متعته" بؤس الثقافة مع الأسف أنَّ ماينتقص من قيمة المعرفة ليس العزوفَ عن القراءة والانكباب على الإحداثيات الألكترونية كما يتوهم البعض بل المنتسبون إلى الثقافة زوراً وأصحاب المقامات الذين يقتصركل إنجازهم في إضافة الألقاب المُضخمة إلى الأسماء،وإصدار البيانات المُنمقة.هولاء هم وراء التسويق لنسخة ممسوخة من الثقافة.ولم يفهموا من الفكر إلا صيغته الشعاراتية التي تفيدهم في بورصة المناصب والألقاب.والحال هذه فإنَّ التحدي الأصعب هو الاستمرار في إنشاء زمنك الخاص وسط بيئات يسود فيها الأنموذج المُضلل.كما أنَّ تقليم العقل من الأوهام المُغلفة بالفكر ليس أقل صعوبة.لأنَّ الوحشة توقظ الأشباح في الرأس ولايصحُ أن يكون تصاعد الإصدارات واصطفاف الجموع لتوقيع العناوين المقتنية مقابل تفاقم الشعبوية والخطاب الانفعالي والجمود العقلي مصدراً للأرق لأنَّ الكتبَ المؤثرة لاتقرأُ على نطاق واسع بل تصادرُ وفي أحسن الأحوال تأخذ مكانها خلف العناوين الرائجة.أكثر من ذلك فإنَّ ماكينة الاستهلاك غيرت مذاق القراءة فالأولوية هي لتحويل النشاطات اليومية إلى محتويات صوتية ومرئية ولاضير من هذا المنحى إذا كان الغرضُ منه نشر الأعمال القيمة وتقديم مايناسبُ طبيعة تلك الوسائط.لكن من الملاحظ أنَّ هذه الحالة أصبحت لوثة طالت الجميع وقد تفسرُ عدم فاعلية المثابات الثقافية.وما استدعي الاسترسال في تناول موضوع القراءة هو السؤال الذي طرحَ سلفاً عن ترابط بين صلاحية الكتب وزمن القراءة.ومن المعلوم إنَّ الكتب التي قد يكون لها نصيب لأكثر من القراءة وتعادُ الرحلةُ إلى صفحاتها هي من صنف نادرُ وهذا لايقللُ من قيمة العناوين التي لاتحظى إلا بقراءة واحدة.ولايعني بأن النوع الأخير يتمُ إقصاؤه، لأنَّ التشكيلة بأكملها تكشفُ عن حيثيات تكوين الزمن الشخصي وعرفك فی الاختیار ومراحل نشؤ التفكير المعرفي وتحديد الخط الذي تتخذه اتجاهات القراءة.وبما أنَّ الإنسان لايولدُ قارئاً فالبطع تتطلبُ الدراية بهذا العالم معاينة الكثير من العناوين ومصاحبة أكبر عدد من الأسماء في بداية الطريق.وعلى هذا النحو ينضجُ الإدراكُ. والطريف في رحلة القراءة إن كل مايفوت المرءُ قراءاته من الأعمال النوعية في مرحلة البدايات يمكن العودة إليه وبهذا يكون منسوب التشويق الأوفرَ كما أنَّ العناوين التي تلوحُ أطيافها في الذهن مع قراءة كل عمل جديد.تؤكدُ بأنه على الرغم من الانقطاعات التي قد تشهدها مسيرة القراءة والانتقال من مجال إلى آخر في سياق الأزمنة المختلفة لكن ثمةَ خيطاً ناظماً لهذه الحلقات. عزلة مرحة قد تكون وطأة العزلة ثقيلة على النفس وقد خلف الحجر الصحي أعراضاً مرضية على سلوك الفرد أثناء الغزوة الوبائية إذ بدأ البحث عن الآليات التي يمكنُ أن يخففُ بها الشعور بالوحدة. وسد الثغرات التي كانت تتسعُ في جدار الزمن.بخلاف الملل المشبوب بالقلق الذي ساد على المستوى العام فإنَّ هذه الفترة كانت فرصة متفردة بالنسبة إلى من يهمه التذوق بعزلة مرحة من خلال التفرغ للقراءة.وفي الحقيقة أن مُصاحبة الكتب شأنَّ أية عملية إبداعية تتطلبُ فصل الزمن الشخصي عن واقع البيئات التي لايكون فيها الوعي بالبعد الزمني إلا تقليدياً تحددهُ المهام الوظيفية.من هنا نفهم مؤدى مايقوله كافكا بأنَّه يحتاج إلى العزلة ليكتب لا عزلة الناسك لأنَّ ذلك النوع لايلبي مطلبه بل عزلة الميت.يصعبُ القبض على الزمن في طوره المكثف خارج لحظات القيام بالعمل الإبداعي أو الانسحاب مع فصول كتابٍ يزيدُ من قيمة الوقت ويكسبه صفات معينة وبذلك تنشأ الخصوصية في الإدراك للزمن ويتشابكُ الإحساس به مع التحول على الصعيد المعرفي.هل يترتبُ ذلك باستمرار مع قراءة كل كتابٍ؟ ماذا عن الكتب التي يتعثرُ بها القارىءُ ويشدهُ إلى وحل الرتابة؟ ومايقودنا إلى هذا السؤال هو تصاعدُ عددُ الكتاب نتيجة وفرة المنصات التي تتيحُ فرصة النشر وقد تعاني المكتبات في المستقبل من تضخم المحتوى وندرة المتصفح.ومن المعلوم أن دافع الكتابة ليس إبداعياً في جميع الأحوال وقد يتوسل المرءُ بالكتابة للعودة إلى الواجهة بعدما تنصرفُ عنه الأضواء وهذا ماينطبقُ على الوجوه السياسية التي تراودها الرغبةُ للحضور من بوابة الكتابة بعد مُغادرة المنصب أو خسارته. على أية الحال فإنَّ كونك قارئاً أكثر أهمية من كونك كاتباً حسب رأي الكاتبة الأمريكية "كيت زمبرينو" صحيح فإنَّ اصطدام بعناوين مخيبة للأمل أمر واردُ.ومايواسي القارىء في مثل هذا الموقف هو ما كان يردده فرناندو بيسوا مع نفسه "قد يحبطني النصُ الذي أقرؤه، لكن لن يقلقني هاجسُ أنَّي أنا من كتب هذا النص" إلى جانب النصوص المحبطة توجدُ الأعمال التي تصادرُ زمناً واسعاً في ماراثون القراءة قسمها مرتبط باكتشافاتك الشخصية كما تشارك غيرك في قسمها الآخر.ولاتخلو هذه الحالة من التورط في قراءة مادون مستوى المتوقع إذ قد يهمك أن تتابع كل مانشر عن كاتبك المُفضل وتلاحق ما يعلنُ عن أعماله الجديدة غير أن ماتتفاجأُ به ليس الانعطافات الإبداعية بل التكرار والتدوير، مايعني أن الكاتب يعول على مجد أعماله السابقة وهذا مقتل للإبداع والتجدد.لايُنكر بأنَّ للأسماء غوايةً وقد تسبق على النص وتضَّيق المجال على معايير الحيادية والموضوعية.لعل اقتراح فوكو لاختبار الكتابة بدون الأسماء لمدة عام واحد مرده ملاحظة مؤلف "الكلمات والأشياء" لدور الاسم في توجيه القراءات.وهيمنة النخبة المكرسة على المشهد.أياتكن النظرة للقراءة وملابسات الوثوقيات الثقافية فإنَّ ما يضاعف من رفقة الكتب هو طبيعتها المجانية وتكثيفها للزمن.وحسن التدبر للوقت ربَّ العبارة التي لن تسمعها من القارىء أبدا " الوقت لايمرُّ ماذا أفعل به؟!" إذن يتخذ الزمن على كنف القراءة معنى آخر ولايكونُ خاوياً أو متثاقلاً في حركته.اذا كان الزمن لديه محدوداً يقتنصُ من ذراته لصناعة المعنى وبالطبع لايمل من زمن ممتدُ لأنه يجدُ فيه مجالاً لبناء أعراف جديدة في القراءة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram