اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > التجديد.. حياة لنظام وهلاك لآخر

التجديد.. حياة لنظام وهلاك لآخر

نشر في: 17 يناير, 2024: 09:05 م

رشيد الخيون

عندما يُبنى النظام السياسي على عقيدة حزبية أو دينية، يكون التراجع عنها انهياراً، فبعد أنْ يقضي النظام عقوداً مِن التعليم والتثقيف بها، لحمل المجتمع عليها، منقوشة في الدستور وفي دفاتر المدارس، فلا مجال للتراجع، مع بقاء النظام نفسه، فلم ينفع الاعتذار ولا إعادة الاعتبار، لمَن أُعدم وغيب بسببها، والسُّؤال:

ماذا لو خرج مصلحٌ مِن أبناء العقيدة نفسها، ألم يتغير النّظام؟ نعم، يتغير ولكنّ لا تبقى العقيدة قائمة، فإذا انهارت، انهار ما سواها. لا يكفي خلع النَّظام ثيابه، إلا الإصلاح الشّامل، الذي يقرّ بأنَّ الدَّولة لإدارة مصالح النَّاس، لا دين لها، ولا عقيدة ملفقة مِن الرّوايات. عندما أراد أحد ملوك أوروبا عزل الكنيسة عن الدّولة، أعلن أنه ليس ملكاً على "الضَّمائر"، فكان الإصلاح (لوكير، التّسامح في عصر الإصلاح).

يذكر التّاريخ ما فعله الخليفة عبد الله المأمون(ت: 218هج)، لما عاد إلى بغداد ووجد المطاوعة استغلوا الفراغ، وبما أنّ بغداد عاصمة، ومَن يهيمن عليها تخضع له الأطراف، أعلن منها تسيير دولته بعقيدة كلاميّة دينيّة، وهي "خلق القرآن"، وأمر امتحان الفقهاء بها، ووفقها يتحدد الإيمان والكفر، استمر عليها، مِن بعده، أخوه وابن أخيه، لكن ما إن أتى جعفر المتوكل (قُتل: 247هج) وانقلب عليها، لم تنته العقيدة فقط، بل انتهى النّظام نفسه، فصارت تتحكم فيه الميليشيات- بمصطلحات زماننا- والقول مشهور: "خليفةٌ في قفص/ بين وصيفٍ وبغا/ يقول ما قالَا له/ كما تقول الببّغاء"(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام). كذلك شاع ببغداد على لسان اللُّصوص والعيارين، السنة (307هج)، عندما قُلد المملوك نجح الطُّولوني في إدارة الشّرطة: "أخرج ولا تبالي/ ما دام نجح والي"(مسكويه، تجارب الأُمم).

مِن أمثلة العصر الحديث البليغة: ظهر ميخائيل غورباتشوف (1985-1991) مصلحاً، بعد سبعين عاماً (1917-1991) مِن هيمنة العقيدة المركزيّة في الدَّولة والمجتمع، ومع كلّ الجبروت الداخلي والخارجي، وإذا يتحول الإصلاح (البروسترويكا) كارثة على النّظام نفسه، لأن الإصلاح هزّ ثوابت العقيدة، كما أن الأنظمة التي تبنت العقيدة الدّينيَّة، تورطت بها، لأنَّ العقائد للأفراد لا تصلح تطبيقات في الدَّولة.

اتُّهم غورباتشوف كثيراً، ومازال متهماً، حتَّى بعد وفاته (2022)، بالعمالة لإسقاط الاتحاد السّوفييتيّ، لكن لا أحداً نظر بأنّ الإصلاح إذا بدأ لا يُعصَم منه النّظام نفسه، وهنا لا يعنينا الخطأ والصّواب، إنَّما نظام العقيدة، لأنْ تكون ضمير النّاس، لا يقبل الإصلاح بأدواته. هذا، وإذا كان نظاماً دينياً، فالإصلاح المرائي سيضر الدِّين والدُّنيا معاً. كنا نقرأ لافتات ضخمة، ببعض العواصم، تقول: "فلان ضمير الأُمة"، فتأمل.

ما تنجح به أنظمة، مِن تجديد، وتقدم بالأقوال والأفعال، لم تكن أنظمة عقائديَّة، عندها السّياسة فن الممكن تماماً، والداخل أهم مِن الخارج، ومعلوم أنّ عقيدة دولة، أي دولة، عابرة للحدود والأوطان، لا تكتفي بداخلها، بل تواجه أزماتها الدّاخليّة بتصدير ضررها إلى الخارج، وإشغال شعبها بالشّعارات، لا بالبناء وملاحقة التّطور، ويكون شعبها أولاً، فمَن لا ينفع شعبه عاجز عن إعانة غيره. هنا يكون التّجديد هلاكاً لنظام العقيدة، بينما حياةً لغيره، وحكاية الحرس القديم، ومواجهته للإصلاح، ليست خافية على أحد، فإذا اضطرت إلى الإصلاح فلا يتعدى التَّرقيع.

نسب لعَدي بن زيد (ت: 587م) ما نعتبره حكمةً، وإنْ اختلفت المناسبة: "نُرقّعُ دُنيانَا بتَمزِيق ديِننَا/ فلَا دِينُنَا يَبقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ"(اليسوعي، شعراء النّصرانيَّة قبل الإسلام)، وقد استشهد ابن خلدون بالبيت، ولم ينسبه (المقدمة)، غير أنّ الجاحظ (ت: 255هج) نسبه لبعض المجان (كتاب الحيوان). أياً كان القائل فالحكمة ظاهرة فيه. ترى بشار بن بُرد(قُتل:167هج)، أخذه وقال بما يفيد المقام: "نُرقّعُ بَعضَ دُنيَانَا ببَعضِ/وَنَترُكُ مَا نُرقّعُهُ ونَمضِي"(ابن أدمر، الدُّر الفريد وبيت القصيد).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram