ثائر صالح
تفوق سيرة حياة الفارس جوزف بولون، أو باسمه الشهير شيفالييه دو سنت - جورج (1745 - 1799) كل التخيلات،
ولا أظن بوجود موسيقار عاش حياة أكثر غرابة وتنوعا من حياة هذا العبقري الذي أهمل عن عمد. فلو بدأنا من تحدره، فهو ابن مزارع فرنسي ثري في غوادلوب (من مستعمرات فرنسا في الكاريبي) وأمه من العبيد الذين "امتلكهم" المستعمرون. وصل إلى فرنسا وهو طفل ليتلقى تعليما رفيعاً، ثم ادخل مدرسة الفروسية في الثالثة عشرة من عمره ليبرع بالمبارزة والفروسية حتى أنه تغلب على الكسندر بيكار أشهر مبارز فرنسي. درس جورج العلوم والفنون في الصباح، وفنون القتال بعد الظهر. عمل جوزف بعد تخرجه من أكاديمية الفروسية في حرس الملك، ومنح لقب فارس (شيفالييه) فأصبح يسمى "شيفالييه دو سنت - جورج".
برع باللعب على الكمان والكلافسان (الهاربسيكورد) بقدر براعته في اللعب بالسيف، أهداه أفضل المؤلفين أعمالهم التي ألفوها خصيصاً له، مثل الفرنسي فرانسوا-جوزيف غوسك والألماني كارل شتاميتس والإيطالي أنتونيو لولي. أصبح سنة 1773 قائد الفرقة الموسيقية التي أسسها غوسك، فرقة الهواة التي تألفت من هواة ومحترفين بينهم أساتذة في الكونسرفاتوار الباريسي، لكنها حلت سنة 1781 لنقص التمويل. بعدها قاد فرقة جديدة هي اوكسترا اللوج الاولمبي (كونسير دو لا لوج اوليمبيك)، وهي الفرقة التي قدمت سيمفونيات هايدن الباريسية الست، وبينها السيمفونية الباريسية رقم 85 المعروفة بسيمفونية الملكة لأنها كانت المفضلة لدى ماري أنطوانيت ملكة فرنسا التي حرصت على حضور كل حفلات الفرقة.
لم تتوقف الحياة "الرتيبة" لهذا الموسيقار الفارس عند هذا الحد. فقد تطوع للدفاع عن الثورة الفرنسية بعد قيامها، وأصبح آمراً على الفيلق الأمريكي الذي أسس بقرار من الجمعية الوطنية وضم الملونين من المستعمرات الفرنسية في الكاريبي تعداده 800 من المشاة و200 من الفرسان فأصبح دو سنت - جورج آمراً عليه برتبة جنرال، عاونه صديقه توماس - الكسندر دوما (امه من أفارقة هايتي وأبوه نبيل فرنسي، وهو أبو الكاتب الكسندر دوما). من أبرز انجازاته كشف مخطط الماركيز ديمورييه لاحتلال مدينة ليل بمساعدة الجيش النمساوي وتنصيب ابن لويس السادس عشر، واعتقاله قادة الجيش النمساوي وإرسالهم إلى باريس، وكان هذا من أكبر الأخطار التي هددت الثورة. لكن دو سنت - جورج اعتقل وسجن مع تنامي الفوضى وانفلات الإرهاب الروبسبيري في 1793، ليطلق سراحه لاحقاً دون أن يتمكن من العودة إلى مواقعه السابقة، ليموت سنة 1799 مريضاً وفي عوز شديد.
ألف دو سنت - جورج 12 كونشرتو كمان وسيمفونيتين وثمانية سيمفونيا - كونشرتانته (وهي شكل هجين كما يدل الإسم) وعدد من الرباعيات الوترية ومختلف أعمال الحجرة وعدد من الأوبرات الهزلية كذلك. يتميز أسلوبه بالأناقة والرشاقة (بالمناسبة، كان يتقن رقص الباليه أيضاً). كتب جل أعماله في سبعينات القرن، وهو عقد مهم في تاريخ تطور الموسيقى الأوروبية عموماً (هايدن، موتسارت، غلوك). أطلق عليه البعض اسم موتسارت الأسود، لبراعته في الموسيقى، لكنه أهمل عمداً بسبب لون بشرته. أُنتج مؤخراً فيلم بعنوان "شيفالييه" (2022) يتناول حياة هذا الرجل الفذ، من إخراج ستيفن ويليامز.