TOP

جريدة المدى > عام > منصف الوهايبي والمطولة الشعرية: العبور الأجناسي في قصيدة النثر

منصف الوهايبي والمطولة الشعرية: العبور الأجناسي في قصيدة النثر

نشر في: 20 يناير, 2024: 11:05 م

د. نادية هناوي

تمتلك الحدود الإطارية لأي جنس أدبي قار فصلا وتمكينا ذاتيين، معهما تبدو أية عملية في تجاوز هذا الجنس لأي نوع سردي أو شعري أمرا غير محتمل،

لسبب جوهري هو أن الإطار قالب قار على الصعيد الخارجي بينما يظل البناء الداخلي قابلا لأي تنويع ومتسعا كميا بشكل استمراري. وهو ما يجعل الوحدة في الإطار الحدي هي عينها الاستمرارية في التحول الكمي كأشكال وأنواع أيا كانت عمليات التحول تهجينا/ تناصا أو صهرا/ احتواء أو انتقالا/ عبورا.

ولا اعني بالانتقال ما يكون في شكل طفرات طارئة أو قفزات فجائية إنما هي حركية ناجمة عن استمرارية التطور على مستوى الداخل النصي حسب. وليست الاستمرارية في التطور سوى مرحلة ما بينية فيها يكون النوع أو الشكل منصهرا نصيا بتراكم كمي يختلف تبعا لطبيعة ما يجري فيه من تسارع أو بطء أو ما يتم إدخاله عليه من إضافات قد تبدو كبيرة أو تكون طفيفة. وهي بالعموم لا تؤثر في نوعية الحد الاجناسي لكنها تُدخل عليه بالضرورة تغيرات نصية أو تناصية أو مناصية معها يزداد تطور النص داخليا فقط. أما الحد الاجناسي فيبقى ثابتا.

وإذا كانت الاستمرارية في التطور النصي مرحلة بينية تحصل بتدرج يتفاوت من نص إلى آخر، فإن الاستمرارية في الثبوت الاجناسي هي أهم مؤشر على ما للجنس من تجذر نوعي يجعله متميزا بالوحدة والترابط والخصوصية التي بها يتفاوت الجنس ويختلف اختلافا تاما عن أية أجناس أدبية أخرى.

ولا يفهم من استمرارية التطور النصي أنها سريعة في دواميتها وآنية في حصولها، بل هي تحصل ببطء غير ملحوظ تاريخيا كعملية طبيعية بلا زيادات أو نقصان. وما بينهما فترات من التحول قد يحصل فيها تراكم وقد لا يحصل وأحيانا يكون التراكم سريعا ويختفي تدريجيا بعد حين.

ومن الأمثلة على الاستمرارية في التطور مع بقاء الوحدة الإطارية كما هي، المطولات الشعرية التي هي قصائد لها شكل ملحمي يتألف من عشرات أو مئات السطور الشعرية، وتستعمل فيها تنويعات النظم العمودية والتفعيلية والنثرية، وتوظف فيها مختلف الضمائر السردية والتقانات الفنية. وقد تبدو كتابة المطولات الشعرية قليلة كونها مقصورة في الغالب على الشعراء الكبار مثل ت. س. اليوت في(الأرض اليباب) ورامبو في(فصل في الجحيم) ومن الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين الذين كتبوا المطولات الجواهري في قصيدته(مرحبا أيها الأرق) وشفيق معلوف في(بساط الريح) ونازك الملائكة في(مأساة الحياة) التي بدأت بكتابتها عام 1945 وانتهت منها عام 1965 وسمتها مطولة شعرية، وكتب السياب (بين الروح والجسد) عام 1946 وسماها رواية شعرية ونشر صفاء الحيدري قصيدة(أوكار الليل) عام 1947 وسماها ملحمة وهي من مئة وتسعين بيتا. وممن كتب المطولات أيضا الشعراء: محمود البريكان وسعدي يوسف ويوسف الصائغ وصلاح نيازي وفاضل العزاوي وبلند الحيدري وياسين طه حافظ وعبد الرحمن طهمازي ومحسن اطيمش وخزعل الماجدي.

وتظل المطولة الشعرية أسلوبا شعريا يزيد من اتساعية البناء الداخلي الذي به تتأكد إطارية الجنس الشعري. بعبارة أخرى نقول إن القصائد المطولة تعد اشتغالات فنية وصفية وليست تصنيفية. ولعل من الأسباب التي تحمل على الاهتمام بكتابة القصائد المطولة هو تلبيتها حاجات نفسية تتعلق بالبوح والإفضاء أو مناسبتها للنزوع الفطري نحو الاسترسال في السرد وتفريعه وتفصيله.

ولا تُكتب المطولة إلا على خلفية همّ نفسي أو موضوعي فيه الشاعر مفكر، أي صاحب قضية فكرية يستغرق في تأملها ويغوص في أبعادها بحثا عن تجليات أو رؤى تحقق له مراميه وتبلغه مقاصده. هذا إلى جانب ما تحمله كتابة المطولات الشعرية من انشغالات فنية واشتغالات تجريبية لا يقدر عليها إلا من أوتي قدرة على إطالة النفس في نظم الشعر.

وكانت نازك الملائكة قد عدت الأسلوب النصي في كتابة الشعر المحمل بالفكر والمستغرق في التأمل نمطا متقدما وأطلقت عليه (الهيكل الذهني) وفيه تتاح للشاعر فرص كثيرة في الانبساط والتطويل على عكس الهيكل المسطح الذي هو ضيق ومحدد وغير منبسط. وأشارت في كتابها(قضايا الشعر المعاصر) إلى أن صعوبة الهيكل الذهني تأتي من كونه(مملا متعبا حين لا تتخلله ذروة عاطفية تثير حماسة القارئ وذلك هو السبب في الرتابة التي نلمسها في بعض قصائد أنور العطار وهي لا تخلو من أبيات مفردة جميلة غير أن طولها والمستوى العاطفي والتعبيري في الأبيات كلها يجعل النغم مخطوطا دون داع..). ولعل من حسنات التطويل انه يكشف عما يملكه الشاعر من قدرة على تجريد الأشياء وتصويرها فلسفيا لا حسيا، وهو أمر يزيد من عمق الأفق التأويلي في قراءتها فضلا عما يكشفه من قوة قالب قصيدة النثر كونه يقدر اجناسيا على عبور قصيدتي العمود والتفعيلة معا.

ولقد عُرف الشاعر الكبير "منصف الوهايبي" بكتابة قصيدة النثر، متخذا من الأسلوب الملحمي طريقا لبناء المطولة الشعرية، مدللا على قوة قالب قصيدة النثر وما يتمتع به من مواصفات لا تتمتع بها الأجناس الشعرية التي لا تقوى على مقاومة عبور قصيدة النثر عليها مضمومة بداخلها. ومن ذلك مثلا قصيدة (شارع بول فاليري.  سيت. صيف. 2011)  من ديوان (بالكأس ما قبل الأخيرة، 2020) وتبدأ بافتتاح نثري:

طلع النهار ولم تهب الريح

لم تأت اليمامات التي كانت تدق السقف، في جبانة ورقية

أم أنها التبست هنالك بالغيوم

ثم تتحول إلى النظم التفعيلي فتكثر الاستعارات والمجازات الموزونة، ويلف الغموض القصيدة تدريجيا فتغتني بالإيقاع المتجانس والإيجاز المتحرك ببلاغة ورومانسية بمفردات: السفن والبحر والطفولة والمطر والمظلة. وهنا تتم إعادة اكتشاف جوهر الشعر ألا وهو الإيحاء كجذر أو ينبوع منه يتفجر الشعر الحقيقي ويكون بول فاليري نموذجا للتحرر من الوزن والانطلاق في التعبير تارة ومعاودة الوزن والالتزام به تارة أخرى:

إني أحب الأيروبيك..رياضة اعني وموسيقى

ولكني نسيت مظلتي..أنا لست أفهم كيف تمطر فجأة

في سيت..كيف يسوء جو مثل هذا فجأة

في مثل هذا الوقت

ـ بول فاليري إذن؟

هذا دليلي مذ أتينا سيت

قلت ل" منصف غشام" ليلة لم نجد بيت المضيف

كان أقرب ما يكونُ

ونحن نخبط في الشوارع..حذوه.. ونطوف..  من ضوء إلى

ضوء.. به.. نمشي إليه.. ولا نراهُ

ويستحضر الشاعر تاريخا بعيدا من التيهان فيتعجب من حال غابر كان فيه العرب يعلمون غيرهم واليوم هم يتعلمون من غيرهم وبهم يهتدون:

ـ بول فاليري الشوارع كلها منه.. إليه..هنا فكيف نتوه

ـ شكرا..وصلنا

في الليل نأتي

SDF

بجراب راع..قلت ها جاء الغريب أخي.. سيجلس في مكاني

وهو يشرب أو ينام

ماذا تقول له؟

وتعرف أن هذا البيت(اعني جيدا بيت القصيدة) ليس لك

ماذا تقول له إذن؟

لا بيت لي!

ولقد سلكتَ

إلى القصيدة هذه من حيث بول فاليري سلكْ

ماذا تقول له إذن؟ 

وإذا كانت موضوعة الهيمنة الاستعمارية ووجوهها المتعددة أهم الموضوعات التي منحت المحتوى الموضوعي قوة وساهمت في مده بالاتساع الدلالي، فإن موضوعة الربيع العربي وزيف ما يحمله هذا الربيع من حياة وتجدد أضفت على القصيدة طابعا تشاؤميا وجعلتها مصطبغة بصبغة قاتمة وأجواء ملبدة بالقنوط والخيبة والخسران. إذن ليس الربيع أخضر زاهيا ورديا رومانسيا، بل هو صيف عربي مجدب ومكفهر بشمس لاهبة ورمال حارقة وسموم تلفح الوجوه فتشيخ الأبدان وتتهرأ النفوس. ويطغى البعد السردي على حساب النظم التفعيلي ويتخلل الحوار بشكل مباشر أحيانا وأحيانا بشكل مونولوجي غير مباشر. وبهذه الأساليب وتلك الدلالات يستطيل البناء الفني من الداخل وتتعدد أفانينه، فتتضاعف قوة الإطار الأجناسي على العبور.

ـ أنا SDF آخر يا سيدي. والحال ليست بعد كل الياسمين

التونسي كما يرام

ـ التونسي؟ 

إذن سنشرب سيت نخب ربيعكم! 

ليكن.. ولو في الصين..  حدثني..  الحياة..الملتحون.. الناس.

بعد رحيله.. الجنرال.. والأحزاب؟

قل!

ويقابل الشاعر بين فلسفة الشيخين أبي العلاء المعري وبول فاليري، الأول في معرة النعمان بقصيدة سقط الزند حيث نوح اليمام المفجع وليل الجسد الزنجي، والآخر في سيت بقصيدة المقبرة البحرية حيث صخب الأمواج الدافق وطهر نهار الجسد المريمي:

هذا ضريحك حيث كنت لمحت ظل عظاية

بين الحشائش..  وهي تزحف يمنة مثلي

وتزحف يسرة..  وأنا أقول لعلها ولدت لساعتها

ولكني نسيت ونحن نهبط أن أواسيها

ولكني لمحت يمامتين تحومان

وقاربا يدنو

وكان البحر يبدأ كرة أخرى

سلاما.. أنت.. بول فاليري.

بهذا تكون القصيدة في طولها البالغ مئة وستة أسطر قصيدة نثر عابرة بقالب ثابت الحدود، وبناء يتسع ويتسع ويتمدد من دون أن يؤثر على القالب الذي حدوده شعرية وبنيته نثرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram