اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > أسلحة الغرب السرية للهيمنة العلمية

أسلحة الغرب السرية للهيمنة العلمية

نشر في: 22 يناير, 2024: 09:08 م

د. طلال ناظم الزهيري

لم يكن الرابع من أكتوبر 1957 يومًا عاديًا على المستوى العالمي، لكنه كان تاريخ لحدث مهم سُجل فيه تفوق الاتحاد السوفيتي السابق على الولايات المتحدة الأمريكية في مجال غزو الفضاء. إنه اليوم الذي نجح فيه الروس في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي يعرف باسم (سبوتنيك).

الامر الذي دفع الادارة الامريكية آن ذاك الى حشد كل طاقاتها ومواردها لإعادة التوازن العلمي والتقني لصالحها. وعليه، رفعت أمريكا شعار "الأمة في خطر" في الواقع، لم يكن هذا مجرد شعار إعلامي، بل برنامج حكومي متكامل يهدف إلى النهوض بالواقع العلمي والتعليمي في جميع المؤسسات التعليمية. حتى ان الإدارة الأمريكية سارعت إلى مراجعة المناهج الدراسية وتعديلها، بدءًا من المدارس الابتدائية وما بعدها. من ناحية أخرى، اتبعت الإدارة الأمريكية سياسة جمع الإنتاج الفكري العالمي، بغض النظر عن اللغة والجغرافيا. حيث تم تخصيص مليارات الدولارات لمكتبة الكونجرس الأمريكية لإنجاز هذه المهمة. لذلك كان يوجد ممثل لمكتبة الكونغرس في معظم سفارات الولايات المتحدة في العالم، مهمته تتبع البحوث والدراسات والرسائل الجامعية والكتب التي تنشر في هذه الدولة أو تلك. ليتم شراؤها ونقلها إلى مكتبة الكونغرس. نتيجة لذلك، وفي غضون عقد من الزمان، أصبحت مكتبة الكونغرس أكبر مكتبة في العالم. فيما بعد، وبسبب الجهود الكبيرة والتكلفة العالية لعمليات الترجمة، قدمت الحكومة الأمريكية الدعم لدور النشر الأمريكية، وخاصة تلك التي تهتم بنشر الإنتاج الفكري العلمي. من أجل زيادة مكافأة النشر للباحثين والكتاب وإتاحة فرص قيمة لهم لنشر أبحاثهم ودراساتهم في المجلات العلمية الأمريكية. في سياق متصل شجعتهم على مغادرة بلادهم والقدوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الرعاية والاهتمام المفقودين في بلادهم. وفي ظل ضعف الإمكانات المادية للباحثين في الدول النامية وتضاؤل فرص النشر وتجاهل دولهم لأهمية البحث العلمي، غادر كثير منهم بلدانهم مثل الهند وباكستان والدول العربية وهاجروا إلى أمريكا. ولأن لكل سياسة سلبياتها وإيجابياتها، وجدت الولايات المتحدة أن فتح الباب أمام الهجرة على نطاق واسع بدأ يضغط على المواطن الأمريكي ويدفع باتجاه دفع الإدارات الأمريكية لفرض قيود أكثر صرامة على الهجرة والمهاجرين. لذلك كان الأسلوب الأفضل هو جذب انتباه الباحثين والدارسين إلى النشر في المجلات الأمريكية عن طريق زيادة مكافأة النشر، والتي تم تعويضها ببيع المجلات والكتب للمكتبات في مختلف دول العالم. وفي ظل رغبة الإدارة الأمريكية في استقطاب علماء من الدول النامية للنشر في المجلات الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، الأمر الذي يتطلب كتابة البحوث والدراسات باللغة الإنجليزية وتجنب النشر في مجلاتهم المحلية وبلغاتهم القومية. نما حجم الإنتاج الفكري العالمي في اللغة الإنجليزية إلى درجة لا تضاهى مع أي لغة أخرى. وقد سهل ذلك على المؤسسات الأكاديمية والبحثية في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية الوصول إلى كمية هائلة من موارد المعرفة والاستفادة منها، مقابل ندرة مصادر المعلومات بلغات أخرى. في السنوات الخمس الماضية، أدركت المؤسسات العلمية والأكاديمية في الدول النامية خطورة هذا الأمر، فحاولت تطوير وسائل النشر وزيادة الرصانة في مجلاتها العلمية، فضلا عن تشجيع دور النشر فيها على تبني سياسة الوصول المفتوح من خلال تطوير المستودعات الرقمية المحلية، ولكن هذا الأمر لم يمر دون عقاب. من نوع مختلف تم فيه استخدام أسلحة غير تقليدية، بهدف إنهاء الدوريات العلمية المحلية. أول هذه الأسلحة هو [Impact Factor]، وهو مؤشر لقياس جودة وأهمية دورية معينة، بناء على عدد المراجع والاستشهادات في البحوث والدراسات المنشورة فيها على مدى فترة زمنية محددة. ومن أجل ممارسة مزيد من الضغط على العلماء والأكاديميين في البلدان النامية، ابتكرت دور النشر الأمريكية مؤشرا آخر لجودة الإنتاجية العلمية للباحثين يعرف [H- INDEX] الذي يتم من خلاله تقييم جودة المساهمات العلمية للعلماء والباحثين. على أساس عدد الاستشهادات المرجعية التي تحصل عليها بحوثهم من باحثين آخرين. هذا المؤشر، مثل مقياس قوة التأثير، ليس له أساس علمي، حيث يصعب تحديد عدد الاستشهادات ما لم تكن متوفرة في البيئة الرقمية، أما السلاح الفتاك فهو قاعدة بيانات [Scopus] التي أصبحت بين عشية وضحاها كتابا مقدسا سماويا لا يمكن لمسه أو نقده، والمجلات التي تتاح من خلالها تعد هي الأفضل والاكثر رصانة. بشكل عام. ساهمت هذه التدابير وغيرها إلى تعظيم حجم النتاج الفكري العالمي المنشور في اللغة الإنكليزية مقابل ضعف المساهمات العلمية باللغات المحلية للدول النامية. والذي أدى إلى تراجع المجلات والدوريات العلمية المحلية للدول النامية وضعف النشر فيها. نتيجة لذلك أصبحت مهمة الباحث الغربي في الحصول على مصادر معلومات بلغته أسهل. في الوقت الذي يعاني فيه الباحثون والعلماء للدول النامية من ندرة البحوث بلغاتهم الوطنية. في المحصلة النهائية أصبحت هناك وصاية تفرضها الجهات المؤسسة لهذه المؤشرات على المؤسسات الأكاديمية في دول العالم النامية. مقابل هذه النتائج، يبقى السؤال المهم. إذا كنا على علم بكل هذا، فلماذا تستجيب جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية لهذه المؤشرات وتتفاعل معها؟ الجواب ببساطة هو الترتيب العالمي للجامعات، وهو آخر الأسلحة. مع ملاحظة أن معظم التصنيفات الدولية للجامعات تعد عامل النشر كأحد أهم مؤشراتها، ولذلك فإن رغبة جامعاتنا في تحسين تسلسلها في التصنيف العالمي يدفعها إلى حث الباحثين وإغرائهم أو إجبارهم أحيانا على النشر في المجلات الدولية التي يمكن الوصول إليها بسهولة من خلال التصنيفات الدولية مقارنة بالمجلات المحلية. وكنتيجة نهائية يمكننا القول إن أمريكا والدول الناطقة باللغة الإنكليزية أحكمت قبضتها على الإنتاج الفكري العالمي وهي المستفيد الأكبر منه. سوف تحاصر المؤسسات العلمية والأكاديمية في مختلف دول العالم لتلتزم بمعاييرها وتفي بمطالبها. وسنستمر في الدوران حولها لأننا لا نملك استراتيجيات وطنية تحررنا من القيود العلمية المفروضة علينا. وقريبا ستظهر الآثار السلبية المتوقعة والتي قد تمتد إلى إضعاف دور المجلات الأكاديمية المحلية وإهمالها على المستوى الأكاديمي. الأمر الذي يؤدي إلى تراجع النتاج العلمي باللغة العربية وافتقارنا إلى مصادر معلومات باللغة العربية. ولأن وزارة التعليم العالي ورغبة منها في تحسين رتبها في التصانيف العالمية أصدرت العديد من التعليمات والتوجيهات التي تحث الباحث العراقي للنشر في المجلات العالمية، الأمر الذي نتج عنه تحويل مبالغ مالية ضخمة للخارج لتسديد كلف النشر في المجلات العالمية والتي كان من الممكن الإفادة منها في تطوير مجلاتنا المحلية. فضلا عن نتائج سلبية أخرى منها وقوع الكثير من الباحثين ضحية للمجلات المفترسة وتشجع ظاهرة النشر بالإنابة مقابل مبالغ مالية متفق عليها. ولا شك أنها سوف تساهم في تنامي ظاهرة الانتحال العلمي.

وفي الختام لا بد من أن نشير إلى أن العديد من دول العالم لم تخضع لهذه الهيمنة، بل تبنت لنفسها مسارا علميا خاصا ووضعت ضوابط ومعايير وطنية لضمان جودة الإنتاج العلمي لدورياتها ولاعتبارات وطنية فقط. ومن النادر أن تجد باحثا فرنسيا يتجاهل لغته وينشر باللغة الإنجليزية أو يعطي الأفضلية للمجلات الأمريكية على حساب المجلات الفرنسية، ولا تزال المؤسسات الأكاديمية في تلك البلدان تلتزم بمعاييرها الأكاديمية الخاصة التي تتوافق مع سياساتها الوطنية. وهذا ينطبق على ألمانيا وإيطاليا وكوريا والصين... إلخ. لذلك لا بد لنا أيضا من إنشاء مرحلة جديدة تهدف إلى إعادة الاعتبار لمواردنا المعرفية من الدوريات والكتب، ونعمل على ترسيخها من خلال وضع ضوابط ومعايير تتماشى مع الواقع الأكاديمي للجامعات العراقية تحافظ على هيبة لغتنا العربية. وكرامة باحثينا. مؤسساتنا الأكاديمية لديها رصانة العلمية والإمكانات المادية والبشرية. دعونا نتجاهل مقاييس الإنترنت التي في معظمها لا ترتبط بجهات علمية أو أكاديمية معلومة، ونضع إستراتيجيتنا الوطنية الخاصة التي من شأنها أن تحقق التقدم لمؤسساتنا الأكاديمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram