TOP

جريدة المدى > عام > الدولفين: تماهي العنوان ومتانةَ البنيان*

الدولفين: تماهي العنوان ومتانةَ البنيان*

نشر في: 23 يناير, 2024: 10:15 م

جهاد مجيد

بات شائعا ومكرورا - لدى محترفي النقد أو الطارئين عليه- أن العنوان عتبة من عتبات النص؛ والعتبة- واقعيا -هي موطئ الخطوة الأولى للدخول الى أي بناء من بابه- فالعنوان باب النص الذي يُرتقى إليه من العتبة,

وأراه حجيرة تكتنز كل التركيبات التي تتكون منها حجيرات جسد النص الأخَر على الرغم من تنوع وظائفها. والقول بأن العنوان حجيرة إنما يؤكد استقلاليته النصية. وهذا يلتقي بصورة من الصور بالرأي القائل إن العنوان نص آخر موازٍ. وكما تُشاكل الحجيرة الحية في خصائص بناها خصائصَ حجيرات الجسد الآخَر، يُشاكل العنوان النص فينطوي على تلخيص مكثف لدلالاته بتورية التماهي بينهما, وما عدا ذاك فإخفاق أو فضفاضية في تحقيق العلاقة السليمة بينهما, فكلاهما – العنوان والمتن الذي يليه- متعشقان إشعاعيا بعضهما ببعض على الرغم من انفصالهما الظاهري.

انطلاقا من هذا، اخترت (الدولفين) عنوانا للمتن الروائي الذي تركه صديقي الكاتب الراحل عدنان منشد من دون أن يعنونه؛ فلمَ؟ ما الدواعي والمسوغات؟ بدءا وردت هذه المفردة في مستهل الرواية وتحديدا في العبارة الأولى (يخلعون عليَّ لقب الدولفين) بالتأكيد ليس عبثا أن يطلق الروائي هذه العبارة مستهِلا بها روايته، بل هو يستدرك ليعطينا سببا مقنعا جدا (ولم لا؟؟ طالما أن الحياة تصعد بك من سافل الى أعلى ثم تنزلك الى أسفل سافلين) ص7

اذن أوجدَ القرينة بين الدولفين والشخصية الرئيسة في الرواية، الصعود والهبوط؛ وتوسعتُ في هذه الصفة الدولفينية المتناقضة فقرأتُها قرينة لحالات المجتمع الذي تخوض في مجرياته الرواية؛ المجتمع العراقي؛ في مراحله التاريخية المختلفة؛ فهو الآخر في عمليتي تناقض؛ صعودا وهبوطا, فالزمن العراقي الذي تستغرقه وقائع المتن يبدأ من سبعينيات القرن الماضي (لم يكن أحد الايام من شهر نيسان عام 1977يوما عاديا بالنسبة اليً حينما قادني البروفيسور احمد فاضل كريدي الفيزيائي الى اطراف مدينة سلمان باك في جنوب بغداد) ص 7. وهي مرحلة صعود لهذا المجتمع الى درجة تغريه ان يترك مدن اوربا وامريكا والمجيء إلى العراق والعمل في المؤسسات الحكومية, وتنتهي بفترة الاحتراب الطائفي وهي فترة هبوط, بل انحطاط. وما بينهما كان أفظع. أليس هذا تماهيا مع الخصيصة الدولفينية التي استهل بها الروائي روايته؟ كما ان ماركة السيارة التي كان لها حضور بيّن وحيز متعين في الوقائع من نوع (دولفين) لعله أراد بها ترميزا للوجود الغربي في (تسيير) الشؤون العراقية. واضافة الى ما تقدم فان مفردة الدولفين تتكرر مرارا وتكرارا صفة للشخصية الرئيسة في الرواية بدءا من الصفحة الاولى بل الجملة الاولى حتى مشارف النهاية: -

- قال بصوت أجش: حياك الله يا دولفين. ص 14

- قلت في نفسي: كان الله في عونك يا دولفين ص 15

- انت تحبطني يا دولفين ص16

-لا عليك.. اصطبر يا دولفين ص19

- ماذا يا دولفين ص2

- صباح الخير يا دولفين ص26

حتى اخر صفحة في الرواية لحظة مواجهته نهايته يتساءل (ما هو مصير سيارتي الدولفين الممهورة باسم ميت) ومما حدده منظرو السرد من وظائف العنوان الوظيفة الإيحائية. وأرى في مفردة الدولفين –شكلا ومحتوى وايقاعا- أهلا لتأدية هذه الوطيفة فهي جديدة الاستخدام عنوانا في السرد وكذلك ذات حضور بصري لافت يمثل في العين ولها إيقاع ينطلق من تفاعل متعاقب لأصوات الحروف التي توَلًّد مفردة الدولفين فتُستفز المخيلة.

ويوصف الدولفين بالمكر والخداع والغدر أحيانا وليس وديا دائما – كما يظن بعضهم- فقد يسحب الانسان بمكر إلى القاع فيهلكه، هذا ما تثبته مصادر معرفية عدة عن الدولفين.

وعلى الرغم من أن الرواية من نوع الروايات الرشيقة - وهو مصطلح نستعيره من الناقدة الكبيرة نادية هناوي- فإنها كثفت مادة سردية غزيرة وعميقة وبمتانة تكنيكية مبهرة متوزعة على دوائر عدة، تنفتح في بداياتها لتنغلق محققة أدوارها المحسوبة بعناية فائقة، مجلية مقاصد النص ومفجرة أسراره الدفينة بحبكة الغموض والسرية والمفاجآت غير المغرقة في البوليسية.

الدائرة الأجلى والأوسع يؤطر محيطها حيثياتِ حياة الدولفين - البروفيسور داوود - على امتدادها الزمني الذي هو امتداد زمن وقائع الرواية المعادل للزمن العراقي الممتد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي حتى العقود الاُوَل لهذا القرن وهو زمن محتدم الاحداث موٌار بالتغييرات والقفزات والغرائب والمصائب والمفاجآت. ثم دوائر أصغر ينفتح محيط كل منها وينغلق لصيقا بالدائرة الاولى الأكبر وكأن أبطالها (عبرية) يقلهم الدولفين بسيارته الدولفين. الدائرة الثانية من حيث الحجم والثقل والفاعلية هي دائرة (الضبع) الحاج فلاح الذي يصعد سيارة الدولفين منذ الصفحة 14 في الرواية الا ان محيط دائرته يبدأ قبل ذلك بزمن بعيد منذ طفولته عبر استرجاعاته لأحداث مهمة من ماضيه ممتلئة بالمساوئ والسوابق الجرمية لينغلق بتصفيته بالطريقة التي انتهجها في تصفية ضحاياه فالدوائر الاصغر, هالة زوجة البروفيسور التي تهرب مع تاجر دواجن - كان الدولفين يعمل في شركة الدواجن التي تحمل اسمه - حالما يبدأ الدولفين فترة هبوطه وفقدانه كل امتيازاته التي رفل جراءها بحياته الرغيدة؛ وتنتهي إلى امرأة فاسدة تغوي القاصي والداني. جمال حمدان شقيق تاجر الدواجن ذو ميل ثقافي يعبر عنه بتشجيع الشعراء واحتضان فعالياتهم وينتهي به الامر إلى أن (يخرخر) في أنابيب جهاز الاذابة. وهو ذات المصير الذي تلقاه ياسمين الفتاة الخريجة التي بسبب حاجتها للعمل يؤول بها المآل للوقوع في احضان ذوي المال.

بلاسم داوود ابن البروفيسور الذي يتبناه تاجر الدواجن الذي هربت إليه امه واصبح بحسب وصية يملك الصاية والصرماية كما يقول غريمه جمال حمدان, عميد الشرطة عبد الباقي عميد في شرطة القناة له ماض طويل من الصدامات مع رأس الجريمة الضبع ويلاحقه لعقد الصفقات الخاصة به الا ان مصيره الاخير هو القتل بتدبير جهات أعلى منه.

ولم يكن هؤلاء اكسسوارات للشخصية الرئيسة أو شخصيات هلامية ترفد السياق التأليفي للسيرورة التلقائية للرواية فلكل واحد من هؤلاء كينونته المتجسدة بخصائصها المميزة عن سواها والكاشفة عن جانب من جوانب الواقع فتدمغه بالإدانة النابعة من مصهر التقائها من دون قسر او تكلف. وتعدد الدوائر رافقه تعدد السراد, وبالتأكيد مثل هذه التقانة تفضي الى فتح نوافذ اوسع وافاق ارحب لتلقًي حيثيات النص والتنقل الحر والمباشر زمانا ومكانا داخل وخارج الشخصيات. اذ يشارك الاخرون البروفيسور- الدولفين- الذي يسرد الكم الاعظم من متن الرواية؛ الفصول السبعة الاُوَل فالفصل الاخير. بينما تتناوب بقية الشخصيات سرد الفصول الخمسة الأخَر بضمير المتكلم بدءاَ من الفصل الثامن ويسرده جمال حمدان فالتاسع ويتولى سرده بلاسم ابن الدولفين فالعاشر ويسرده الضبع فالحادي عشر ويسرده العميد عبد الباقي.

ولكن تعددية السراد لا تعني تعددية الاصوات فالأولى تقانة فنية والثانية مضمونية تتعلق بالنمذجة الرؤيوية المتمثًلة بمواجهة الشخصية للشخصيات الأخَر بوجودها المادي وحضورها الفكري والاجتماعي.

وكشف الكاتب عن قدرة احترافية ببناء شخوصه بعدم وقوعه في مهوى التقوقع في التجربة الذاتية التي يقع فيها الكتاب لدى كتابتهم تجاربهم الروائية الاُوَل فبقي بعيدا عن املاءات الذات وبخاصة في بناء الشخصية الرئيسة اذ وفر لها كل الاسباب المقنعة بوضعها العلمي الخاص كبروفيسور في علم الاحياء وفر لها كل ما تتطلبه من مادة علمية دلت على معرفة الكاتب باخص المعطيات المعرفية لها والخوض عن دراية في امور علمية خلقت قناعة تامة بحقيقية شخصية العالم لا هلاميتها, كما عكس رؤياها المناسبة في تبني تفسيراتها واحكامها على الاحداث كواحد من المستفيدين من نِعَم النظام السابق فيشيد بأيام نعيمه ويتحدث بمقت عن مسقطيه الاطلسيين (بكيد أممي مشين من دون مسوغ) ص 12 على الرغم من أن الكاتب أحد ضحايا ذلك النظام ونال العسف والاضطهاد على أيدي جلاوزته في أجهزته القمعية. لذا التزم الكاتب الحيادية بل الاخلاص الى حقيقة الشخصية الروائية فثبت رأيه واحاسيسه غير العدائية لذلك النظام.

وبرع الكاتب في ملاحقة الوقائع مضمخة بحضور نسغ خفي للطبيعة التي تحف بالمشهد السردي: حركة, صوت, رائحة, لون, شكل, فتولِّد احساسا حقيقيا بمثوله في لحظته (اتضحت الشمس صافية بينما انا وسط اعشاب جافة مسورة بأشجار. كانت الاعشاب حد الركبة ومتشابكة وكانت تحاصر رجلي فاشعر بالراحة كأن رجلي مخدرة) ص72 و(رائحة الاعشاب طرية وصوت هسيسها راح يداعب اذني فيلفني شعور غريب)(تبدد الغبش وانكفأت الظلمة على مهل, وكنت اسمع اصوات الطيور, صراصر الليل, ضفادع, وكلب ينبح, وكان يتهادى من بعيد نفير الشاحنات.. استطيع ان اشم خضرة الاعشاب) ص125و(امتد ظلي امامي لما مالت الشمس نحو المغيب) و(كان السكون شاملا في الطريق الى حد اننا سمعنا حفيف اجنحة الزاغ المهاجرالى السماءالبعيدة) ص31

ولقد مر بنا مثل هذا الانتباه لتفاصيل جانبية ممتزجة يسيرورة المشهد السردي لدى القاص جيان في اواخر الخمسينيات ولدى فاروق اورهان في منتصف الستينيات من القرن الماضي.

* حرف الواو الذي يتوسط العنوان واو المعية لا العطف لغرض بيان القصد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram