TOP

جريدة المدى > عام > عالم واحد أم عوالم متعددة؟

عالم واحد أم عوالم متعددة؟

نشر في: 23 يناير, 2024: 10:16 م

تيموثي أندرسن*

ترجمة: لطفية الدليمي

عندما كنتُ في أواسط ثلاثينيات عمري جابهني موقفٌ تطلّب منّي إتخاذ قرارٍ صعب. كان لذلك القرار مفاعيل ستبقى آثارها معي لسنوات طويلة،

وليست نادرة تلك الاوقات التي ملأ روحي فيها الندم بسبب ذلك القرار الذي إستوجب أن أتّخذ خياراً بين خيارين لعروض العمل المتاحة أمامي حينذاك: الاول هو العمل في تجربة فيزيائية عملاقة يترتّب عليها نتائج حاسمة، ومكان العمل هو الساحل الغربي من الولايات المتّحدة في منشأة تدعى (منشأة تجارب الاحتراق الوطنية NIF)، وقد حصل أن حققت هذه المنشأة العام الفائت (2014) إنعطافة حاسمة في تجارب الاندماج النووي. أما عرض العمل الثاني فكان الانضمام إلى معهد بحثي في جامعة أمريكية. أرهقني التفكير لأسابيع عدّة بشأن الخيار الصائب الذي ينبغي لي إتخاذه؛ فقد كان لكلّ من الخيارين حسناته وسيّئاته. عملتُ خلال هذه الاسابيع المضنية على الاستئناس برأي أستاذ فيزياء لي في مدرسة الدراسات العليا بجامعتي التي درستُ فيها. كان أستاذاً أكنُّ له إحتراماً عظيماً، وأرشدني إلى إختيار العمل في معهد البحث الجامعي، وهذا مافعلته.

في السنوات اللاحقة، وحيثما بدا عملي باعثاً على الملل ومفتقداً إلى الالهام، أو متى مادفعتني تقلّبات عملية تمويل البحوث إلى اتخاذ مسارات بحثية ومهنية ماكانت تروق لي، أو – وهذا أسوأ الامور وأشدّها وطأة على روحي – عندما كانت أخبار نجاحات NIF المبهرة تتناهى إلى مسامعي فقد كان عقلي في كلّ تلك اللحظات يتساءل في حيرة واضطراب: ماذا لو...؟ تخيّلْ نفسك لو كنتَ قد اتخذت خيار العمل الثاني في ولاية اخرى تبعد آلاف الاميال عن ولايتك الحالية. تخيّل الحياة الاخرى المختلفة التي لن تعيشها أبداً.

كنتُ أتساءل ثمّ أعود ثانية لأتملّص من مشقّات هذا السؤال والنتاج المترتبة عليه. كنتُ ألتمسُ الراحة والسكينة بالقول: من عساهُ يمكنُ أن يعلمَ شكل حياتي الثانية (المتخيّلة)؟ ربما ماكانت لتكون إلا أسوأ من حياتي الراهنة (الحقيقية).

كلّ حياة بشرية لاتخلو من الالم. حتى الحياة التي توصفُ بأنها (حياة مثالية Perfect Life) حيث يمكنك حيازة كلّ شيء ترغبه فيها هي في النهاية حياة تخفي مشقّاتها ومكابداتها الفريدة من نوعها. كتب فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche في كتابه الاشهر جينيالوجيا الاخلاق The Genealogy of Morals عام 1887:

" الانسان: أشجع الحيوانات وأكثرهم عرضة للمعاناة، لاينكرُ تأثير المعاناة فيه بكلّ ماهي عليه في حقيقتها؛ بل هو يرغبها، يرحّبُ بها، ويبحثُ عنها ويطلبها شريطة أن تنطوي على معنى، وأن تكون ثمّة غاية ومقصدٌ لهذه المعاناة.... "

إنّ حياةً تبدو كاملة مثالية لهي أقربُ إلى الجحيم متى ماافتقدت المعنى والغاية. ستكون جحيماً حقيقياً حتى لو حفلت بكلّ أشكال الراحة.

في بحثنا عن المعنى في الحياة يحصلُ في الغالب أن تنتابنا تخيلات مثيرة أقرب لمشهديات فنتازية حول شكل مسارات الحياة وطبيعتها التي لم نختبرها. هذه الحيوات البديلة التي لم نعشها قد يكون لها زخم الواقع وقوته وسطوته؛ لكن بمفاعيلها الخاصة، وربما قد تكون واقعية بمقدار (واقعية) الحياة التي نعيشها!!. في روايته التي أسماها مكتبة منتصف الليل The Midnight Library المنشورة عام 2020 يستكشف مات هيغ Matt Haig هذا المفهوم. نقرأ في الرواية عن إمرأة تدعى (نورا سيد) تُمْنَحُ لها إمكانية عيش الحيوات التي لم تعشها فيما لو كانت إتخذت خيارات أخرى غير تلك التي إتخذتها، وكلّ حياة بديلة من حيواتها ستكون محتواة في كتاب بمكتبة لانهائية. عندما تختارُ نورا كتاباً من تلك الكتب في تلك المكتبة فسيكون في مقدورها معاينة الحياة (البديلة) التي لم تعشها في ذلك العالم (البديل)، وستبقى هذا القدرة متاحة لها طالما شعرت بالراحة. كلّ عالمٍ ممكن يصبحُ اقعاً حقيقياً. تجربة مثيرة وفنتازية إلى أبعد الحدود المتصوّرة.

لقرون عديدة حلم الفلاسفة بعوالم بديلة؛ لكنّ مَقْدَم الفيزياء الكمومية والحاجة إلى بلوغ تفسير تنبؤات النظرية المضادة للحدس البشري هو وحده ماجعل إمكانية وجود العوالم البديلة تبدو أمراُ واقعياً. نشأت بواكير هذه النظرية (تفسير العوالم المتعدّدة The Many Worlds Interpretation التي تُخْتَصر بالحروف الثلاثة MWI) في خمسينيات القرن الماضي، وأوّل من نادى بها هو طالب فيزياء أنهى دراساته العليا حديثاً هو هيو إيفيريت Hugh Everett. أثارت النظرية في بدايتها قليلاً من الضجة، ثمّ حصل ارتقاء وشيوع لمفاهيم هذه النظرية في سبعينات القرن الماضي من جانب الفيزيائي Bryce DeWitt إلى حدّ فجّرت فيه هذه النظرية المخيال الجمعي العام وأثمرت عن طفرة نوعية مميزة في الفن والثقافة. إنها فنتازيا غريبة ومثيرة؛ إذ أنّ نظرية فيزيائية وضعها فيزيائيون لتلبية حاجة إلى تفسير سلوك الوحدات البنائية الاصغر في كوننا صارت هي ذاتها الدافع الاعظم الذي حفّز نقاشات ثقافية رفيعة بدأت من أعماق الفلسفة الاكاديمية والعلم ولم تنته مفاعيلها عند مكاتب النخبة الهوليودية.

المفهوم الحديث للعوالم الممكنة يُنسَبُ إلى الفيلسوف الالماني الموسوعي متعدّد الاهتمامات المعرفية Polymat، والمشارك في إبتداع حسب التفاضل والتكامل، والندّ إلى إسحق نيوتن – ذاك هو غوتفريد فيلهلم لايبنز Gottfried Wilhelm Leibniz الذي كتب عام 1710كتابه الاشهر الثيوديسيا: مقالاتٌ في طيبة الرب، وحرية الانسان، وأصل الشر

Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom of Man, and the Origin of Evil

عبارة (أفضل كلّ العوالم الممكنة) ترد في هذا الكتاب، وهي محاولة من جانب لايبنز لحلّ معضلة الشر في عالمنا عبر الافتراض بأنّ عالمنا هو أفضل عالمٍ ممكن، أو بعبارة أخرى: أيُّ عالمٍ ممكن آخر غير عالمنا سيحوي شرّاً أكبر من الشر المشهود في عالمنا.

إعتمد لايبنز في عمله هذا على عمل آخر أنجزه الكاهن الجزويتي (اليسوعي) الاسباني لويس دي مولينا Luis de Molina الذي عاش في القرن السادس عشر. رأى مولينا أنّ الربّ يعتمدُ معرفة وسطى Middle Knowledge وهي معرفة الرب لماسيفعله أي شخصٍ لو وُضِع في موقف ما. أفعالُ أيّ شخص منّا ثابتة في أيّ عالم ممكن؛ لكنّ هذه الافعال قد تختلف عند الانتقالة من عالمٍ ممكن إلى عالم ممكن آخر بسبب إختلاف ظروف الحياة في كلّ من العالميْن؛ لذا فإنّ الرب منحنا نوعاً من الارادة الحرّة التي تعدُّ متطلباً ضرورياً لجعلنا مسؤولين عن أفعالنا؛ لكنّ الرب من جانبه، ولكونه يمتلك معرفة وثيقة بما سنفعله فإنّه يضعنا في أفضل عالم ممكن لأكبر عدد من البشر. تكون خياراتنا كبشر في مثل هذا العالم محدّدة بصورة مسبّقة Predetermined، وتفترض الرؤية اللاهوتية لمولينا أنْ حتّى الرب يحتاج للتضحية ببعض البشر (الاقلية) من أجل خلاص الآخرين (الاكثرية).

وظّف الفيلسوف التحليلي الامريكي المعاصر ألفين بلانتينغا Alvin Plantinga الافكار اللاهوتية للايبنز في إخراج عمله المميز بشأن العوالم الممكنة والذي إختار له عنوان طبيعة الضرورة The Nature of Necessity ونشره عام 1974. الامر مع بلانتينغا شبيه بما فعله هيغ في روايته؛ فهو (بلانتينغا) يتصوّرُ وجود مكتبة عظيمة من الكتب، وكلّ كتاب فيها يعود إلى عالم ممكن. يعرّفُ بلانتينغا الكتاب العالمي (الشامل) بأنّه كلّ شيء حقيقي true (متضمّناً كلّ شيء ضروري)؛ أي بمعنى كلّ شيء حقيقي في كلّ العوالم وليس في عالم واحد بعينه، وكذلك كلّ شيء له واقعية مشروطة contengent (بمعنى أن يكون حقيقياً في بعض العوالم فحسب وليس في جميعها). إنّ كلّ عالم ممكن بحسب رؤية بلانتينغا له كتاب واحد (واحد فحسب!!) من الاشياء الحقيقية.

يصف بلانتينغا الفرق بين الحقائق (الضرورية) و (المشروطة) بالطريقة التالية: هل كان من الممكن أن يكون سقراط صرصاراً أو تمساحاً استوائياً؟ نعم، من الممكن. ثمة عالم ممكن حيث يستيقظ فيه سقراط ليجد نفسه صرصاراً كما حصل في الرواية القصيرة (النوفيلّا) التحوّل Metamorphosis التي كتبها فرانز كافكا عام 1915. نستطيع القول أنّ سقراط باعتباره كائناً بشرياً ليس بالامر الضروري اللازم لكنه حقيقة تصادفية طارئة ومشروطة في عالم بذاته (هو عالمنا، المترجمة). على العكس من مثال سقراط فإنّ الاستلزامات الرياضياتية على شاكلة 1+1=2 وكلّ البراهين المنطقية هي صحيحة في كلّ العوالم. لماذا؟ لأنها ضرورية.

تعامل بلانتينغا مع فكرة العوالم المتعددة الممكنة مثلما فعل كلّ من لايبنز ومولينا؛ لكنه مع هذا أكّد وجود عالم حقيقي واحد. العوالم المتعددة الممكنة بقدر مايختصُّ الامر ببلانتينغا هي مفهوم مفيد للفلاسفة للتفكّر فيه واستخلاص نتائج مثيرة منه؛ لكنّ العوالم المتعدّدة لاتوجد كعوالم حقيقية.

من جانب آخر فإنّ تفسير العوالم المتعدّدة MWI في فيزياء الكم ينبؤنا بأنّ كلّ العوالم الممكنة توجد، وأنّ العالم الذي نعيش فيه لايختلف عن أيّ عالم من العوالم الممكنة. تفيدنا واحدة من صياغات تفسير العوالم المتعددة بوجود نسخة ثانية مطابقة لك ولبيتك ولعائلتك في مكان ما. إنّ فكرة وجود العوالم المتعدّدة بالنسبة إلى الشخص العادي قد تبدو مربِكة له لأنها تنزع عنّا فردانيتنا الشخصية المميزة لكلّ واحد فينا؛ أما بالنسبة للفلاسفة على شاكلة بلانتينغا ففكرة العوالم المتعددة مربِكة لأنها تنتزع مفهوم وحدانية الحقيقة من مركزيته وجوهرانيته في التفكير البشري.

* تيموثي أندرسن Timothy Andersen: فيزيائي أمريكي يقود فريقاً بحثياً في في معهد البحوث التابع لمعهد جورجيا التقني Georgia Institute of Technology. مؤلّف كتاب الكون اللامتناهي The Infinite Universe (2020).

المادة المترجمة أعلاه هي جزء من مادة مطوّلة نشرها أندرسن بعنوان (كلّ العوالم الممكنة All Possible Worlds) في موقع Aeon بتاريخ 15 حزيران (يونيو) 2023. أدناه الرابط الالكتروني للمادة المنشورة لمن يشاء قراءة المادة الاصلية كاملة:

https://aeon.co/essays/multiple-worlds-has-been-given-artistic-impetus-by-physics

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram