اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: أمرأة تغفو فوق بيانو

باليت المدى: أمرأة تغفو فوق بيانو

نشر في: 28 يناير, 2024: 10:44 م

 ستار كاووش

خرجتُ من الصالة التي ضَمَّتْ راقصات البورسلين بمتحف الفنون والحرف اليدوية بمدينة هامبورغ، وأنا أفكر بطيف الراقصات ونعومة حركتهن، لكني لم أنسَ كلمات موظفة المتحف حول معرض آلات البيانو، التي قالتها لي بداية مجيئي. فتحت خارطة المتحف التي بيدي، فإكتشفتُ بأني أقف بمحاذاة هذا المعرض تماماً، فعطفتُ بسرعة ودخلت القاعة التي بدت واسعة بشكل كبير، كإنها متحف داخل المتحف، وغبتُ وسط هذه الآلات الموسيقية التي تعود الى قرون مضت.

تنقلتُ بين أرجاء المعرض وقرأتُ بعض التفاصيل، لأعرف بأن المعروضات هي أنواع قديمة من البيانو تُسمى (سمبالو)، والتي تحمل بعض الاختلافات التقنية من ناحية المطارق التي تضرب الأوتار، حيث تُصنع في السمبالو من ريشات الأوز. وجاءت هذه المعروضات من الفترة التي تطورت فيها صناعة البيانو على يد الموسيقي وصانع الآلات الموسيقية الايطالي كريستوفوري، الذي طور نوعاً من الهارْب ليتوصل الى صنع أول بيانو متكامل سنة ١٧٢٦، وسماه (الهارْب الذي يمكنه عزف نغمات طيعة وصاخبة) ثم تم اختصار الاسم الى بيانو.

في داخل الصالة مترامية الأطراف توزعت العشرات من هذه الآلات الجميلة التي تعكس ثقافة وجمال وابداعات تلك الايام البعيدة . أشكال نادرة ومذهلة بطريقةِ صنعها أو الرسومات التي أفترشت سطوحها وأغطيتها التي تشبه الأجنحة. وقد جاءت كل المعروضات من بلدان أوروبية متباعدة مثل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وغيرها، لتتم إستضافتها في هذا المتحف إحتفاءً بالجمال الأوروبي.

لا شيء يضاهي متعة وقوفك أمام هذه الآلات التي تشبه تحفاً خرجت من باطن الزمن وأخذت أماكنها وسط مدينة هامبورغ، وكإنك هنا تكاد تسمع نغماتها التي تعود الى بضعة مئات من السنين. أتجول بهدوء بين آلات البيانو القديمة، متأملاً جمال الصناعة اليدوية التي تسامت وإحتلت مرتبة عالية من الفن، حيث صُنِعَتْ من الخشب والجلود والعاج والمعادن الثمينة والزجاج، ويضاف الى ذلك ريش الأوز، كذلك اللوحات التي زينتها. أنظرُ الى المواد التي صنعت منها، وأقترب منها أكثر، وكإني أسمع الموسيقيين الذين عزفوا عليها. زخارف أخاذة أخذت طريقها أيضاً على حافات وجوانب هذه القطع التي تشبه أعجوبة أو كنوزاً كانت مخفية.

هنا ترى كيف انسجمت مجموعة من الفنون مع بعضها في فن واحد، وأعادتنا الى جمال فن الباروك، بل تجاوزته من ناحية التنوع والثراء، حيث ترى كيف ينتصب البيانو متلفعاً بالحرفة اليدوية والتصميم والرسم، كذلك المنحوتات الصغيرة التي أخذت أماكنها بين بعض الجوانب، ثم تأتي الموسيقى التي تعتبر الخيط الأحمر لكل الحكاية، لأنها أساس وجود هذه الآلات الفخمة المهيبة.

أما الرسومات الجميلة التي تزينتْ بها هذه الآلات من كل جوانبها، فتقول الكثير، حيث نرى المناظر الطبيعية التي تعود لفترة الركوكو، كذلك الزخارف المذهلة التي منحت الاشكال هالة من الجمال والتأثير، هنا ترى رسومات لصبية يتراقصون، وهناك تلمح رجالاً يمارسون بعض ألعاب القرن الثامن عشر، وعلى بيانو آخر رسومات لأشكال بعض الملائكة الذين طاروا بأجنحتهم من القرن الثامن عشر ليحطوا وسط هذه القاعة، فيما غَفَتْ امرأة مرسومة بترف على غطاء بيانو أنيق، يظهر خلفها منظر طبيعي لبعض المرتفعات والسماء التي بدت كإنها تنذر بنغمات عصر جديد. تأملتُ كل الرسومات التي توزعت على جوانب آلات البيانو، ورَدَّدتُ مع نفسي: ياللجاذبية، وياللجمال الذي لم يأفل بعد كل هذه السنين، الجمال الذي ظلَّ مستيقضاً ليخبرنا، كيف كان الموسيقيون الكبار يعزفون على هذه الآلات، وهم يمررون أصابعهم النحيلة فوق المفاتيح، حيث يتجمع الناس من كل مكان للإحتفاء بتلك الانغام التي تعلو وتهبط وترفف وسط الصمت والانبهار.

وهاهو الزمن يمضي كما مضى الموسيقيون والجمهور وقاعات العزف، ذهبَ الجميع وغادروا بعيداً، مثلما سأغادر هذه القاعة بعد قليل، لكن الابداع الذي صاغه الانسان بقي حياً بهيئة آلات موسيقية تبدو تتنفس وتهمس وتستمع لإستجابات زائري المتحف، بعد ان كان يسمعها الجميع ويقف الكل أمام جمالها وقوة حضورها وتأثيرها الذي لا تُخطئه العين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram