اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الذخائر المقدسة

باليت المدى: الذخائر المقدسة

نشر في: 4 فبراير, 2024: 09:15 م

 ستار كاووش

قيمة المتاحف هي إنها تجمع إبداعات من أماكن وأزمنة مختلفة، حيث يمكنك أن تُشاهد أشياء لا يمكنك توقعها أبداً. كما حصل معي وأنا أقف بين الحيرة والانبهار أمام عمل أعتبره من أجمل ما أبدعته أصابع انسان على مرِّ التاريخ، شعور يشبه الفخامة والوقار والرهبة في حضرة شيء إستثنائي.

 إنه العمل العظيم (الذخائر المقدسة) للنحات الايطالي أندريا بروستولون (١٦٦٢-١٧٣٢)، الذي إشتهر في عصر الباروك بمنحوتاته الخشبية التي وصلتْ الى درجة كبيرة من الكمال والجمال والتأثير والقوة والحضور الطاغي. إنه فعلاً ساحر الخشب، ولا غرابة أن يُطلق عليه بعض مؤرخي الفن تسمية (مايكل أنجلو الخشب). هنا لا يمكنك سوى تحسس منابع الجمال الخفي الذي بثه بروستولون عِبرَ ملمس الخشب، ليحوله الى حكايات لا تنتهي بهيئة أطفال وملائكة وقديسين. وهاهي (ذخائره المقدسة) أمامي، وأنا في حيرة من أمر هذا الجمال الذي عَبَرَ كل هذه السنوات حتى وصل الى هذه اللحظة التي قابلته فيها وجهاً لوجه، هنا في متحف هامبورغ. أقتربتُ بهدوء من هذا العمل الذي يكاد يكون حياً، وحاولت في غفلة من حارس المتحف أن أمد يدي وأتحسس ملمس الخشب الذي جاءنا من القرن السابع عشر، حين كانت أصابع بروستولون منشغلة بوضع هذه الحزوز والانحناءات وهذا البريق الذي يلتمع فوق ملامح الشخصيات.

هنا عليك أن تنسى ما تعلمته عن الفن سابقاً، وتضع يدك بيد بروستولون الذي سيـأخذك معه الى عالمه الساحر وكإنك تعيش في مشغله وسط مدينة فينيسيا، حيث منح الخشب حياة جديدة وجعله يبدو متحركاً. تنقلتُ ببصري على هذا العمل الكبير والمليء بالزخارف التي تشبه أعجوبات صغيرة، حيث تلويحات الأيدي التي تداخلت مع الأغصان المعقودة التي يتراقص بينها الأطفال، والأجراس المتأرجحة التي توزعت هنا وهناك، والزهور والنباتات التي أحاطت بالتفاصيل المتداخلة وجعلتها متحركة، فيما حلَّقَتْ الأجنحة في فضاء العمل وجعلته أكثر خفة وانسجاماً. هنا كل جزء يبدو عملاً فنياً متكاملاً، وكل تفصيل يقود الى الاتقان.

تُرى كيف تمكن الفنان من إيجاد كل هذه التفاصيل التعجيزية؟ فكلما تمعنتُ برويَّة ظهرت لي تفاصيل في غاية الجاذبية، وكلما إقتربتُ أكثر، أرى كيف تنساب خصلات الشعر بنعومة، وكيف ترفرف طيات بعض الملابس بترف، بينما العيون ساهمة تنظر الى البعيد وكإنها بإنتظار زائر مثلي يقف مبهوراً أمامَ قوة هذا الجمال، الجمال الذي قضى الكثير من المبدعين أعمارهم بحثاً عنه. في هذا العمل يتجلى أعظم مثل على فن الباروك، ويتوضح أعلى شاهد للجمال أنتجته مدينة البندقية في عصرها الذهبي.

قبل مغادرتي هذا العمل، نظرتُ اليه مجدداً وتساءلتُ بصدق (ماذا فعلتُ في حياتي كي أستحق مثل هذه الهدية التي ستبقى في الذاكرة؟) ويالها من هبة إستَعِدتُ معها معنى الفن الذي يكون مثالاً للحضارة ومنبعاً لتاريخ الجمال وسعادة لكثير من الناس.

لم أرغب بترك هذا العمل ورائي لولا مجموعة من الكراسي والطاولات التي صنعها هذا العبقري بذات المادة التي ينجز منها تماثيله وهي خشب الجوز والأبنوس والعاج، والمعروضة على جانبي القاعة. وهنا اكتملت الحكاية التي جعلت هذا النحات أحد عباقرة الفن الايطالي. تجولتُ بين قطع الأثاث التي منحها هذا النحات مكانة وقيمة مثل الأعمال الفنية العظيمة، حيث تتوزع على مساند الكراسي وحافات الطاولات والشمعدانات، عشرات التماثيل الصغيرة بصياغات مذهلة جعلت كل جانب من هذه القطع عملاً فنياً متكاملاً.

نظراً للأعمال الكثيرة المليئة بالتفاصيل التي عليه انجازها، فقد قام بروستولون بتعيين مجموعة من المساعدين الأكفاء، الذين كانوا يهيؤون له المواد والتفاصيل، ويقطعون له الخشب حسب المقاييس التي يحتاجها، ثم يأتي المعلم ويبدأ بوضع افكاره وتصوراته الفنية التي تعكس فلسفته الخاصة، لينتج لنا في النهاية هذه القطع الفريدة التي وضعته على قمة هرم النحاتين في مدينة فينيسيا وإيطاليا بشكل عام. وخلال بضعة مئات من السنين، جاء بعده الكثير من النحاتين الذين حاولوا تقليد أعماله، وجاهدوا للاقتراب من موهبته، لكنها كانت محاولات غير مجدية، فلم يستطع أحداً منهم الاقتراب من عظمة بروستولون ولا إنجاز أعمال مثل أعماله الاستثنائية الخالدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram