اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > السيرة الذاتية- الموقف الوجودي

السيرة الذاتية- الموقف الوجودي

نشر في: 18 فبراير, 2024: 10:44 م

د. كريم شغيدل

يوظف الشاعر أمير الحلاج في نص (تجاعيد) في مجموعته الشعرية(الدائرة خارج الشرنقة) بعض سيرته بالتزامن مع سن الأربعين من العمر، ويستمد النص بعض ثيمات السيرة من الآخرين ليتفادى ربما رتابة السرد الأفقي، فالآخرون يتقدمون السيرة ويختمونها، أما حياة الشاعر " التي تتموضع السيرة داخلها، فتغدو وسيطاً بين حضور الجماعة وغيابها" كما يقول حاتم الصكر في(كتابة الذات):

" منهم من قال:/ - السهر اليوميُّ سيفٌ يبترُ ساعاتِ الأيامِ/ - أو كالممحاة تمارس اختزال الكتابة/ -الحب المفرط والبغض في موقف حافلة الرؤيا/ - تحفيز المخيلة باستدراج الأوجاع/ أملاً في اقتناص الصور الهاربة/ - تكذيبك المدح قبالة وجهك/ - والطبيب يقول:/ - ربما مرض عضوي التسبب أو نفسي/ - والصحيفة نشرت خبراً:/ - الاكتشاف الجديد عن النيكوتين أقوى الأسباب/ - أي التعاليل أصدّق لو استثنيت السجائر؟"

يوظف النص جزءاً من سيرة الشاعر، يمثل حقبة الكهولة، وهي المرحلة التي يطلق عليها أحياناً مرحلة العد التنازلي، لذلك وبدلالة العنوان (تجاعيد) تمركز النص حول علامة دالة على التقدم في السن، وحاول أن يبحث في أسبابها على لسان الآخرين، في محاولة للإفلات من تأثيرات الزمن الفيزيائي، فكل الأسباب الحقيقية والمجازية التي أشار إليها النص لا تنفي وجود التجاعيد بوصفها أمراً طبيعياً يبدأ مع الكهولة حتى الشيخوخة والهرم، ويضمر النص خوفاً داخلياً من الموت، مثلما يضمر مدلولاً مبطناً عن عبثية الوجود، بدلالة تعدد أسباب الزوال التدريجي، ويمكن تصنيف الأسباب بحسب المرجعيات الثقافية، إذ تبدأ بالسهر وللسهر دلالة مفتوحة على محمولات نفسية وعاطفية مرتبطة بالهم والقلق، ثم الحب المفرط ونقيضه البغض، وكلاهما مرجعية عاطفية وقد تؤول نسبة للدال المكاني (حافلة الرؤيا) إلى تناقضات الوجود، ثم يواصل النص تشعباته باتجاه مرجعية جديدة تحيل إلى أنا الشاعر، ملمحاً إلى ما يمكن تسميته بـ (الكد الشعري) أي الاشتغال على المخيلة لتجسيد أوجاع الواقع أو تمثلها، ثم ينتقل إلى مرجعية اجتماعية، ربما أراد ان يبين تعالي الذات الشاعرة عما يسمى بـ (النفاق الاجتماعي)، وهو تمهيد للانتقال من الاشتغال الذاتي/ الداخلي إلى الموضوعي/ الخارجي، فمن الآخرين إلى الطبيب الذي ينتج رأيه دلالة ثنائية معروفة ومتلازمة (عضوية/ نفسية)، ثم يبلغ الأمر نهايته في الشيوع، أي توظيف المستوى الإعلامي الدعائي والدعائي المضاد بخصوص التدخين، لكن في الآخر يختم النص تشعباته بسؤال مباشر لتعليل تنامي التجاعيد بكونها علامة من علامات الكبر التي توحي بالشيخوخة وتدق ربما جرس الإنذار نحو الموت بحكم الطبيعة البشرية، مستثنياً عاملا خارجياً واحداً هو (السجائر) ليمثل دعاية مضادة لما هو شائع، في دلالة واسعة للتمرد على النسق المؤسساتي/ الاستهلاكي الذي تكرسه الإعلانات أو الدعاية الإشهارية، على أن هذه الصيغة التمردية توازي ما أشاعته بعض الدراسات الثقافية لنقد (الفتش) أي ربط السلعة بالرغبة أو الغريزة من خلال الإعلان التجاري.

إنَّ النماذج التي وظفت السيرة الذاتية في الشعر العربي عموماً لا تعد ولا تحصى، لكن التجربة السيروية للشاعر العراقي تميزت بكونها الأكثر عمقاً، بسبب الصراعات الدائرة التي مست مباشرة حياة المواطن، كما تميزت التجربة العراقية بكونها مزجت مزجاً وجودياً بين الذات الشاعرة والذات بوصفها سيرة شخصية والواقع اليومي الذي لم يكن واقعاً طبيعياً، أو ساكناً أو مهادناً، فقد " كان تحدي الواقع الماثل من أبرز التحديات التي واجهت الفنانين والأدباء، فأي إنجاز فني يرقى إلى أثر اللون الطبيعي المتكون في الخارج؟ وأية رواية تستطيع اختزال ما يعرف بـ (الواقع الملموس) وتقديمه بحرارته وإلفته؟ وكيف يستطيع شاعر – مهما واتته المقدرة- أن ينتزع الانفعال من سلسلة تتصل به في مجرى الواقع ليضمنه قصيدته؟ " هكذا تساءل الدكتور حاتم الصكر، وأظن أن النصوص التي كانت موضع قراءتنا ونشرنا قسماً كبيراً منها، قد أجابت بما تمثلته من رؤى شعرية تنم عن وعي ثقافي لإكساب السيرة الذاتية أدبيتها، وبين مختلف التحولات، ثمة إرث موضوعي وذاتي للشعر لم ينتج أنساقاً خارج مهيمنات الثقافة وأنساقها المضمرة التي تعد مؤلفاً ثانياً بحسب أطروحات النقد الثقافي، تشترك بإنتاج النص سواء بإدراك المؤلف أم بدونه، وتعد تلك الأنساق من عيوب الخطاب والمتمثلة بالعنف والتضخم الأنوي وإقصاء الآخر والتعصب القبلي/ الأيديولوجي، على مدى قرون، بما في ذلك تجربة الحداثة الشعرية التي يفترض أنها وليدة الدولة الحديثة، فلم يبتعد الشعر كثيراً عن أغراضه النسقية في المديح والهجاء والفخر والتفاخر، لذلك وجدنا في توظيف السيرة الذاتية عند الشعراء المحدثين بعداً ثقافياً جديداً، بأنساق ثقافية مختلفة، فالأنا هنا ليست للفخر، والحروب ليست للتفاخر، والآخر ليس لمدحه وتضخيم أناه وتغذية استبداده وطغيانه، ولا لهجائه أو التنكيل به وتعنيفه بصورة حقيقية أو رمزية، بل ثمة أنا واقعية مستلبة، هي جزء من واقع مرير، ثمة ذات إنسانية معذبة تصرخ بوجه البشاعات التي تنتجها الحروب، أنا رافضة للاستبداد، متمردة، محرضة، ساخطة، ناقمة، ترى في سيرتها رسالة إنسانية لصناعة خطاب شعري يتمرد على الوظيفة السلطوية التقليدية للشاعر، وترى في الشعر موقفاً وجودياً من الحياة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram