ستار كاووش
حين ظهرت واحدة من لوحاته في التلفاز كإعلان عن معرضه الكبير، تسمرتُ في مكاني مُتابعاً التفاصيل، ومردداً مع نفسي: وأخيراً ها هو الفنان الساحر بيسخوب يعود في أكبر معرض له بمقاطعة فريسلاند حيث مدينة ليواردن التي ولد فيها.
وقد تم استعارة الكثير من أعماله الفنية من متاحف أخرى لتضاف الى مجموعة متحف فريسلاند في هذا المعرض المهم. يالها من مفاجئة عظيمة جعلتني أتصل مباشرة بالمتحف الذي لا يُبعد عن مرسمي سوى نصف ساعة، لحجز تذكرة المعرض، فأخبرتني موظفة المتحف بأنه يمكنني إستعمال بطاقة المعرض ذاتها أيضاً للذهاب والعودة بالباص مجاناً، وهذا جانب من دعاية المعرض وتسهيل الأمر لمحبي أعمال هذا الفنان للمجيء بسهولة الى المتحف، وستصلني البطاقة من خلال الإيميل، وما عليَّ سوى إستنساخها وجلبها معي، فنظرت الى محطة الباص المحاذية للمرسم، وشكرتها على المبادرة المدهشة.
وصلتُ الى محطة ليواردن، ومشيتُ نحو عشر دقائق بإتجاه المتحف، ماراً ببعض المقاهي وبائعات الورد ومحلات المعجنات التي وصلت روائحها الى الشارع الرئيسي. وعند أولى خطواتي داخل المتحف داهمني إعلان عملاق على جدار بإرتفاع عشرة أمتار تقريباً يمكن مشاهدته من شرفات طوابق المتحف الثلاثة، وقد طُبعتْ فيه إحدى لوحات بيسخوب التي يظهر فيها رجل يدخن غليوناً ويعتمر قبعة داكنة، فيما ملابسه مطرزه بالزهور. نظرتُ الى الإعلان العملاق، وقلتُ في سري: ياله من نموذج مذهل لفن القرن التاسع عشر.
يعتبر كريستوفل بيسخوب (١٨٢٨-١٩٠٤) أهم فناني القرن التاسع عشر في هولندا، بل هو أحد أهم فناني هذا البلد في كل العصور، لما يتمتع به من موهبة فريدة وما تتميز به لوحاته من تقنية ساحرة، وقد شبَّهَهُ الكثير من مؤرخي الفن في هولندا بالفنان فيرمير، وبعضهم ذهبوا أبعد من ذلك حين قارنوه بريمبرانت ذاته. وهو في الحقيقة أثبتَ من خلال أعماله الساحرة والمؤثرة بأنه ينتمي فعلاً الى طراز هؤلاء الكبار الذين صنعوا تاريخ الرسم في الأراضي المنخفضة.
إهتم بيسخوب برسم الحياة اليومية في القرن التاسع عشر، بتكوينات مريحة للعين حيث تجلس النساء قرب النوافذ وعلى الارائك أو ينشغلن بقراءة الكتب، وقد أطلقَ عليه الكثير من معاصريه لقب رسام الفتنة الهادئة، لأن أعماله تحمل فتنة خاصة تمنح المشاهد شعوراً بأنه يعيش بين أجواءها، يتنفس عطر الأماكن ويجلس وسط هذه الشخصيات التي تكاد تكون حقيقية. وقد إستلهم بيسخوب في لوحاته، الأزياء التى يرتديها أهالي مدينة هندرلوبن الواقعة في مقاطعة فريسلاند أيضاً، بمحاذاة بحر الشمال. حيث يرتدي الرجال والنساء والأطفال في هذه المدينة ملابس تبدو فلكلورية مليئة بالألوان والاكسسوارات والدانتيل والزخارف، وجعل من هذه الأزياء قاسماً مشتركاً في كل أعماله، وهذا ما منحَ لوحاته طابعاً خاصاً ومتفرداً. وكان بيسخوب يجمع ويقتني الكثير من هذه الأزياء الجميلة التي يوظفها في لوحاته، كذلك كان يجمع العديد من الأشياء الثمينة التي تعوء الى هذه المدينة ذات الخصوصية العالية.
دَرَسَ بيسخوب الرسم في أكاديمية لاهاي ثم في باريس، بعدها أعطى دروساً للرسم في هولندا، ومن ضمنها الدروس التي أعطاها للفنانة الانجليزية المهمة كيتي سويفت، والتي سافر معها فيما بعد الى لندن وتزوجا هناك، ليعيشا معاً طوال حياتهما الباقية. ونرى المحبة التي ربطتهما من خلال البورتريت المذهل الذي رسمه لها ويتصدر لوحات المعرض، حيث تبدو كيتي جالسة على كرسي مغطى بقطعة نسيج ثمينة، بثوبها الأبيض الذي يبزر من خلال كنزتها الداكنه، ويتناغم مع شعرها الرمادي، تَشبكَ يديها في حجرها بإسترخاء وسكينة، وتلتمع قلادة من الفضة على صدرها. تكوين هذه اللوحة بسيط، لكنها البساطة التي تختصر كل إبداع الرسم، فليست هناك زوائد في اللوحة، ونظرة كيتي الهادئة، تَشي بالمودة والألفة بين الرسام وزوجته المبدعة. والبورتريت تم استعارته من متحف ستيدلك في امستردام، فيما القلادة الحقيقية التي تظهر في اللوحة، من مقتنيات متحف فريسلاند.
وقد إتفقَ الزوجان المبدعان قبيل وفاة بيسخوب بفترة قصيرة، على أن يُمنح -بعد وفاتها هي أيضاً- كل ما بحوزتهما من لوحات وأعمال فنية وما يقتنونه من أزياء، مجوهرات، سجاد، كراسي نادرة، طاولات تاريخية، وحتى أسرة الأطفال الخشبية الملونة التي أدخلها في لوحاته، وأشياء أخرى نادرة الى متحف فريسلاند. وكل هذه التفاصيل نشاهدها اليوم معروضة في هذا المعرض الاستعادي والاستثنائي الذي سيبقى طويلاً في الذاكرة.