د. حسين الهنداوي
(1)
قبل حوالي 2500 سنة، اقدم عدد من ألمع علماء ومفكري بابل والبشرية، على ركوب البحار والمفازات والاخطار باتجاه المجهول في اعقاب تعرض وطنهم العراق، المعروف آنئذ باسمه الآرامي بلاد "ما بين النهرين" وبالإغريقية "ميزوپوتاميا"، الى احتلالين اجنبيين مدمرين متعاقبين هما الاحتلال الفارسي الإخميني في 539 ق.م،
ثم الاحتلال الاغريقي المقدوني في 323 ق.م. طمعاً بكنوزها العظيمة لا سيما الفكرية والعلمية، ولكسر ريادتها الحضارية والسياسية للعالم آنذاك. وتلك الريادة الرافدينية السباقة عالميا ادهشت منجزاتها البشرية وتدهشها الى الآن، بعد ان بلغت ذروة مجدها العالمي خلال حقبة الإمبراطورية الاشورية الحديثة ورمزها الملك آشور بانيبال (685-627 ق.م)، باني أول مكتبة كبرى منظمة في العالم والتي ضمت نحو ثلاثين ألف لوح طيني مع نصوص ووثائق دينية وادبية وتجارية وقصص وملاحم من بينها ملحمة جلجامش والاينوماايليش (عندما في الاعالي).
والامبراطورية البابلية الحديثة (او الكلدانية)، بلغت عظمتها في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني (634 – 562 ق.م.) الذي عدّ من اعظم الزعماء الفاتحين والبناة على مر التاريخ العالمي يليه الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر ورمسيس الثاني وسواهم كما عبرت عنه لوحة "الفاتحون" "Les Conquerants" للرسام الفرنسي الشهير بيار فريتيل Pierre Fritel المرسومة في 1892.
تلك النخبة من المفكرين والعلماء العراقيين القدماء يقف في صدارتها المؤرخ البابلي برعوشا المشهور في الغرب باسمه اللاتيني "بيروسوس Berossus"، مع عدد من معاصريه واشهرهم ديوجين البابلي، وسلوقس الكلداني، وكيدينو نابو ريمانو، وسودينيا وغيرهم.
ديوجين البابلي (Diogenes of Babylon)، وينعت ايضاً بديوجين السلوقي (Diogenes of Seleucia) نسبة الى مسقط رأسه مدينة سلوقيا قرب بغداد، ولد حوالي عام 240 ق. م. ودرس فيها وفي بابل وبورسيبا قبل ان يهاجر الى بلاد اليونان حيث برز فيلسوفا رواقيا ودبلوماسيا لامعا قبل وفاته في عام 150 ق.م عن عمر ناهز المئة عام. وكان ديوجين (ويعني اسمه "صنع الله" وهو اسم اغريقي مركب من كلمتي "Dio" وتعني الله، و"Gen" وتعني التكوين او الخلق)، يلقب من مؤرخي الفلسفة اليونانيون بـ "مصباح الحكمة" للمستوى العقلي الرفيع الذي تميز به ولمكانته كرئيس للمدرسة الفلسفية الرواقية في اثينا. وقد كلف بعدد من مهمات حل النزاعات في اليونان واشتهر بالحكمة والخطابة والذهن الوقاد كما افتتح في اثينا مدرسة لتدريس الفلسفة والخطابة للمثقفين اليونانيين والرومان وقد برز عدد منهم لاحقا واحتلوا مناصب عليا، فيما أرسل هو سفيرا لأثينا في روما.
ولئن اهتم ديوجين البابلي، بنقل الكثير من المفاهيم البابلية، في الفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والقانون والدبلوماسية، الى الثقافة اليونانية الهلنستية وكان اول من دافع عن مبدأ الملكية الخاصة، واول من استخدم دليل (البرهان الانطولوجي) لاثبات وجود الله قبل ديكارت بنحو الفي عام، اهتم برعوشا بتطوير منهج جديد في كتابة التاريخ نقلها عبره من مجرد تدوين لأسماء السلالات الحاكمة والملوك والدول والغزوات الى وضع تاريخ شامل للعالم القديم يمتد منذ بدء الخليقة حتى عصره معتمدا على المصادر الرسمية والنصوص البابلية الموثقة، محافظا على قدر من اساليبها، ومركزا بشكل خاص على التفكير العقلي بالأهداف والاسباب وبالقوى الملموسة والغيبية المؤثرة.
ان ما يهمنا بشكل خاص في الصفحات التي تلي هو محاولة تكوين فكرة وافية و موضوعية قدر الإمكان عن هذا المؤرخ وعن مدرسته الخاصة وآثاره وتأثيراته الكبيرة في تطور كتابة التاريخ فضلا عما يقدمه من تصورات ومعلومات قيمة، ومجهولة الى حد كبير، عن تاريخ العالم القديم بمراحله وامبراطورياته الرئيسية لا سيما التي كانت بابل عاصمة لها على مر العصور. فخلال الفترة الهلنستية وما بعدها لقرون، اشتهر برعوشا لدى الكتّاب الاغريق والرومان واليهود وكذلك المسيحيين الاوائل، بكونه المؤرخ الرئيسي للحياة السياسية التي عرفتها الدول والامبراطوريات السومرية والآشورية والبابلية المتعاقبة على مدى نحو خمسة آلاف سنة منذ ما قبل الطوفان، وخاصة لفترات ما بعد الطوفان التي تبدأ مع انشاء مدينة اريدو في عام 5400 ق.م. تعقبها سلسلة دويلات المدن السومرية (اوروك، اور، كيش..) ثم حكم ملوك فترتي الإمبراطورية الاكدية واهمهم سرجون الأكدي الذي حكم بين عامي 2334 و2284 ق.م، وامتدت امبراطوريته وعاصمتها أكد من عمان وعيلام إلى الابيض المتوسط ومصر.
تلي ذلك السلالة البابلية الأولى وتسمى أيضاً الامبراطورية البابلية الأمورية التي استمرت نحو ثلاثة قرون (1894–1990ق.م) وابرز ملوكها المشرع الكبير حمورابي الذي استمر في الحكم نحو 42 عاما بين 1792 و1750 ق.م، لتقوم بعدها الإمبراطورية الكشّية التي استمرت لنحو أربعة قرون (1580 – 1157 ق.م)، ثم الإمبراطورية البابلية الوسطى (1156 – 1025 ق.م)، واشتهر من ملوكها نبوخذ نصر الاول الذي حكم بين 1124 و1103 ق.م. تلتها الإمبراطورية الآشورية بحقبها الثلاث والتي بلغت ذروة مجدها مع الإمبراطورية الآشورية الثالثة او الحديثة (911–609 ق.م.) أكبر إمبراطورية في الشرق الأدنى القديم على مستوى الإنجازات الحضارية والعسكرية لكن التي انهارت بعد وفاة ملكها الاعظم آشور بانيبال، لتقوم على انقاضها الإمبراطورية البابلية الكلدانية التي عاشت بين منتصفي القرنين السابع والسادس قبل الميلاد واشتهر من ملوكها مؤسسها نبوبلاصر (658– 605 ق.م)، وملكها الخالد نبوخذ نصر الثاني (605 – 562 ق.م). ولقد بلغت بابل في ظل هذه الدولة ذُروة مجدها الحضاري والسياسي والعسكري عالميا، قبل ان تتعرض للاحتلال الفارسي الاخميني الكارثي في عام 539 ق.م، والذي استمر دماره حتى دخول الاسكندر المقدوني الى بابل في عام 331 ق.م.
ويبدو ان الاخير دخلها غازيا لا قاهرا كما تشير معظم المعطيات التي بين أيدينا من مختلف المصادر بما فيها حيثيات الاحداث التاريخية التي رواها برعوشا ومؤرخون آخرون. فبعد ان غادر الإسكندر سهل أربيل وسار مطاردا داريوس لم يدر في خلده الذهاب الى بابل لولا هرب الملك الاخميني اليها لسرقتها للمرة الاخيرة قبل الهروب الى عاصمته الفارسية سوسة في طريقه الى اندحاره المحتم. وهكذا فعندما اقترب الاسكندر من عاصمة البابليين الساحرة الصيت لم يأمر باقتحامها بل ترجل وأمر جيشه بالتعسكر الخارج أسوارها احتراما لمجدها العظيم، فما كان من سكان بابل، كما كتب مرافقه فلافيوس، الا الخروج للقائه، يتقدمهم الكهنة والولاة، وحاملين له مفاتيح المدينة وقلاعها، كما قدموا له الهدايا والكنوز. وهكذا دخل الاسكنر الى بابل في اجواء احتفاء واحتفال قابله باصدار الأمر على الفور بإعادة بناء المعابد التي دمرها داريوس، وخاصة معبد الاله بيلوس (بعل)، الذي كان البابليون يقدسونه بشكل خاص.
فالاسكندر المقدوني "المفتون بماضي بابل المجيد" كان يحلم "بربط بطولاته الملحمية بابطال التاريخ البابلي المجيد" عندما قرر ان يجعل منها عاصمة لإمبراطوريته الكونية لولا ان الاجل لم يمهله لتحقيق ذلك. اذ بالفعل سرعان ما فارق الحياة فيها وعلى الأرجح مسموماً من جنرالات جيشه المقربين، المرتعبين من امكانية تحقيق ارادته المعلنة بنقل عاصمة الإمبراطورية من الغرب الى بابل أي الى الشرق وقيل اغتيل لادعائه الالوهية وانه ابن الاله الاغريقي زيوس وسواه من مزاعم استخدمت ذريعة للتنصل من تلك الإرادة، اذ يروى ان بعض كبار ضباط الاسكندر قرروا تصفيته بعدما جهر بألوهيته واصداره امرا في عام 324 يبلغ فيه كبار ضباطه وحكام الاقاليم اليونانية ارادته بأن يتم الاعتراف به ابناً للإله الاغريقي زيوس – أمون.
. وهكذا ظل الشرق شرقا والغرب غربا ولا يتحدان. فرغم ان بابل مكثت بعد موت الاسكندر على مكانتها لعقود من الزمن كأعظم مركز حضاري في الشرق القديم، الا ان مكانتها السياسية تضاءلت تدريجيا لتختفي نهائيا بعد انتقال عاصمة السلوقيين الى انطاكية على البحر الأبيض المتوسط، أي الى الغرب من جديد حتى السقوط التهائي لدولتهم التي استمرت بين عامي 312 و64 ق.م.
والسلوقيون الذين عاصر برعوشا ولادة دولتهم في العراق هم سلالة حكام تحمل اسم مؤسس دولتهم سلوقس الأول، أحد كبار قادة جيش الاسكندر المقدوني في حروبه للقضاء على الإمبراطورية الاخمينية، اكبر امبراطورية في العالم من قبل. كان قبلئذ احد زعماء الجماعات المقدونية الذين اجتمعوا بعد وفاة الاسكندر المباغتة في عام 323 ق.م، في اتفاقية "تريباراديسوس" (Triparadisus) التي عقدت في سورية عام 321 ق.م، وسط نزاعات أسفرت عن تقسيم مقاطعات إمبرطورية الاسكندر الكبرى الى ثلاث دول او امبراطوريات هي البطلمية في مصر وليبيا والسودان وعاصمتها الاسكندرية، والأنتيغونية في مقدونيا وبلاد اليونان، وعاصمتها بيللا، والسلوقية في ولايات بابل والشام وآسيا الصغرى وفارس وشمالي الهند والجزيرة العربية، والتي اعلنها زعيمها سلوقس بن أنطيوخوس دولة تحمل اسمه في 312 ق.م، متخذا لها من بابل عاصمة في البداية ثم من سلوقيا على نهر دجلة (شمال بغداد) عاصمة جديدة ابتداء من 305 ق.م، قبل ان تحل أنطاكية بدلا منها بعد وفاته. وبلا ريب كان سلوقس الأول الملقب بـ" نيكاتور" (أي "المنتصر") من أقوى قادة الاسكندر وأكثرهم ارادة وطموحاً وثقافة أيضا ولذا ازدهرت سلوقيا سريعا في عهده لتصبح اهم عاصمة ثقافية في العالم.