د. طلال ناظم الزهيري
هناك دائمًا تأثير متبادل بين الأعمال السينمائية والتلفزيونية والنظرة المجتمعية للمهن والوظائف والحرف. و مما لا شك فيه أن الصورة النمطية التي تتشكل في الثقافة الشعبية للمجتمع عن شاغلي هذه الوظائف، سواءً أكانت هذه الصورة مرتبطة بالمظهر الخارجي أم بالجوانب الفكرية والنفسية والسلوكية، ليست بالضرورة صحيحة أو يمكن تعميمها على الجميع.
على الرغم من ذلك، فإنها تضع العامّلين في مهنة معينة في إطار محدد يصعب تغييره لاحقًا. سواءً أكان هذا الإطار يتضمن جوانب إيجابية أو سلبية. ولا شك أن الدور الذي تلعبه الأفلام السينمائية والتلفزيونية في تشكيل الصورة النمطية للمهن والوظائف هو في الحقيقة مرآة تعكس نظرة المجتمع في وقت سابق. لذلك فإن دور هذه الأعمال غالباً ما يؤدي الى ترسيخ تلك الصورة ونشرها على نطاق أوسع، وكذلك نقلها إلى الأجيال القادمة، حتى يعيد المجتمع إنتاجها من جديد لتجد طريقها الى الأعمال السينمائية والتلفزيونية مرة أخرى، وهكذا نجد أنفسنا ندور في حلقة مفرغة يصعب معها الكشف عن مَن يؤثر في مَن. على سبيل المثال من منا لم يلاحظ ان شخصية الأطباء النفسانيين في الأعمال السينمائية (العربية خاصة) غالبًا ما يحتاجون هم أنفسهم إلى طبيب نفسي!. هل هم هكذا فعلاً.؟ بالتأكيد لا. مع هذا من الصعب ان تبعد هذه الصورة عن مخيلتك وانت تلتقي بطبيب نفساني. ولا تستغرب ان قال لك هو شخصيا "انا لست كما تظن".!
إذن الصورة النمطية من وجهة نظري هي تركيب شامل مبني غالباً على التكرار، ويتناغم مع الثقافة المجتمعية او ما يعتقده المجتمع، و التي منها ان " العباقرة غريبين الاطوار ". هل هم كذلك فعلاً ام ان الأفلام كانت قد صورتهم بهذه الطريقة. من ناحية أخرى، هناك العديد من الأدوار في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، حيث يمارس الأبطال مهنة ما. لكن المُشاهد لا يتفاعل عقلياً مع الارتباط المهني بقدر ما يتفاعل مع السلوك الشخصي للبطل بمعزل عن مهنته، أو هذا ما أراده المخرجون أصلاً، حتى انه لا يجد أي مبرر للنظر إلى مهنة المحاماة من منظور إيجابي فقط لأنه شاهدة فيلم: والعدالة للجميع [And Justice For All]، ولا يضعها في قالب سلبي لأنه شاهد فيلم: محامي الشيطان [The Devil's Advocate]. لكن المُشاهد نفسه لا يستطيع ان ينظر الى شخصية المحامي دون ان يضعه في مظهر الرجل الأنيق الذي يختار بدلته بعناية ولا يستغني عن حقيبته الجلدية، لأنها ببساطة الصورة النمطية التي إعتاد عليها المجتمع والتي سوقتها الأعمال السينمائية ورسختها في ذهن المتلقي. كما هو الحال مع المعطف الأبيض للطبيب. والخوذة الواقية للمهندس...الخ.
إذن هناك صور نمطية لها علاقة بالسلوك، وأخرى بالمظهر، وثالثة بالجوانب الفكرية والنفسية. وكل هذه الصور في واقع الأمر غالباً ما يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر في قرارات الأشخاص لاختيار التخصص الدراسي الذي يؤهلهم مستقبلاً للعمل في مهنة ما، طالما كانوا مخيرين في هذا الأمر.
وعودة على ذي بدأ نستذكر كيف احتجت نقابة المحامين في مصر على عرض فلم (الافاكاتو 1983) بعد أن جسد الفنان عادل إمام شخصية المحامي (حسن سبانخ). شعورا من النقابة أن الصورة التي قدم الفيلم فيها شخصية المحامي والقاضي يمكن أن تصبح راسخة في عقل المشاهد، وهو ما يسيء للمهنة من وجهة نظرهم. وهذا الأمر ينطبق على الكثير من المهن والوظائف التي تعرضت لها الأفلام والأعمال التلفزيونية. والجدير بالإشارة إلى أن الأصل في الأعمال السينمائية والتلفزيونية هو إعادة تجسيد للواقع في إطار فني هادف، وبالتالي فإن الدور الذي يلعبه الممثل في العمل هو مرآة لدور شخص آخر في الحياة الواقعية. فعلا مدار قرن من الزمان، تم إنتاج عدد كبير من الأفلام والأعمال التلفزيونية حتى تحولت عمليات الإنتاج هذه إلى صناعة تدر أرباحا كبيرة، لذلك يمكننا القول إن كل مهنة أو وظيفة تمارس في الحياة الواقعية لا بد أنها ظهرت في أحد هذه الأعمال، كما أن بعض المهن ركزت عليها الأعمال السينمائية والتلفزيونية أكثر من غيرها، وذلك لاعتبارات تتعلق بدرجة تفاعل الجمهور معها. فشخصية المعلم على سبيل المثال ظهرت في عدد كبير من الأفلام كما هو الحال مع شخصية رجل الشرطة والمحامي والطبيب... إلخ. واللافت للنظر إن صناع السينما الغربيين كانوا حريصين غالبا على أن تكون الصورة الإيجابية والسلبية مترادفة داخل العمل الواحد. ضابط شرطة نزيه، يطارد ضابط شرطة فاسد، محاميا جيد، مقابل محام انتهازي. وهكذا. بالتالي فإن الصورة النمطية لهذه المهن لا يمكن أن تكون ثابتة على مستوى السلوك والتفكير. لكنها قد تكون كذلك من ناحية المظهر، فالمحامي النزيه والآخر الانتهازي كلاهما يظهران بمظهر أنيق. كما هو الحال مع الطبيب وضابط الشرطة. بالتالي قد تكون الصورة النمطية لهذه المهن مختزلة في المظهر الخارجي فقط. مع هذا لا نزال نحتاج إلى اقتباس فلسفة النقيض في أعمالنا التلفزيونية والسينمائية. ليس من الصواب أن نضع مهنة معينة في إطارها السلبي، دون أن يكون هناك النقيض الإيجابي، وبهذه الطريقة سوف يتم توجيه أنظار المتابع إلى الجوانب الشخصية للمثل داخل العمل الفني، سواء كان طيبا أم شريرا بعيدا عن الإطار المهني الذي يظهر فيه.