لطفية الدليمي
محاولة الاغتيال الاجرامية التي طالت الاستاذ (فخري كريم) هي أكبر من سياق رغبة مَرضية في تصفية كلّ من لا يروق للجماعات الممسكة بزمام السلطة الفعلية على الارض. إنها واحدة من أعراض الخلل البنيوي في النظام السياسي العراقي. نحنُ نعيشُ زمن " اللادولة ".
سيحاجج البعض: قد يكون وضعنا السياسي أقرب للإرتداد إلى حكم القبيلة والعشيرة. ليس هذا صحيحاً. حتى الشريعة القبائلية والعشائرية تحتكم إلى قدر من العدالة والدفاع عن أفرادها وحمايتهم من الغدر والقتل وعاديات الزمن و / أو الانسان المعتدي لكي – في أقلّ تقدير – لاتسقط هيبة رئيس القبيلة أو العشيرة في التراب. على مّنْ تكون رئيس عشيرة أو قبيلة وجماعتك تُستباحُ جهاراً؟
العراق اليوم أسوأ من أيّ شكل نكوصي للحكم من الاشكال التي نقرأ عنها في تاريخ النظريات السياسية والفقه الدستوري وقوانين الحكم وطبيعة النظم الحاكمة في سياق ممارسة السلطة.
ظلّ العراق يرتدّ في شكل الحكم في سياق نكوصي لم يتمّ بذلُ محاولة معقولة ومعقلنة لإيقافه وكأنّ الحكومات المتعاقبة إستمرأت واستطابت هذا التغوّل السلطوي على حساب الحقوق الدستورية للمواطن. شهدنا ملامح تزيد أو تنقص من شكل الدولة الحديثة في العراق في عهد ما قبل 2003. إحتكار السلطة من جانب حزب أوحد كان المثلبة الاكبر والعنوان الجامع لكلّ المثالب مع ضرورة ملاحظة فروق نوعية بين العهود السياسية في مقدار هذا الاحتكار ومدى لجوئه للممارسات العنفية، وفيما عدا هذه اللعبة الصفرية في احتكار السلطة فإنّ العراق كان ميداناً لممارسات إدارية واقتصادية وتعليمية وصحية لها مقبولية ومشروعية على مستوى المقاسات العالمية. كانت الدولة في كلّ العهود تحتكرُ استخدام العنف ولا تسمح بأية مظاهر مسلحة متفلّتة، وكان القانون قوياً صارماً تجاه العابثين بأمن المواطنين.
ماذا حصل بعد 2003؟ خسرنا كلّ تراثنا الرصين في بناء الدولة وسياقاتها الاصولية المحترمة التي تراكمت عبر عقود طويلة من الخبرة. تكفي الاشارة إلى (ديوان الرقابة المالية) الذي ظلّ محافظاً على هيبته الاعتبارية منذ بواكير تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921. اليوم لدينا هيئات وجهات رقابية كثيرة وهي كلها عروش خاوية تحوّلت لمصدر إثراء وفساد.
خسرنا بعد عام 2003 ملمحين رئيسيين من ملامح الدولة الحديثة:
أولاً: احتكار الدولة لكلّ تشكيلات إنفاذ القانون (جيش، شرطة، أمن)، وعدم السماح بأية تشكيلات خارجة عنها أو موازية لها بأي تسويغ كان.
ثانياً: السياسة بين الافراد أو الاحزاب تُمارسُ بالحوار وليس بالدم. الدولة التي تشيع فيها ممارسات قتل الخصوم (الحقيقيين أو المفترضين) هي دولة فاشلة بكلّ المقاييس.
(فخري كريم) ليس زعيم حزب مناوئ لأيّ من الاحزاب المشتركة في المشهد السياسي العراقي الراهن، وليس قطباً مالياً ينازع الآخرين سرقاتهم وتهافتهم على مصّ دماء العراق حتى آخر قطرة فيه. هو قطب ثقافي وصانعٌ ماهر وفاعل وحيوي للمشهد الثقافي فيه عبر مؤسسة (المدى) التي شهدت أنشطتها ومطبوعاتها نهضة كبرى في عناوينها ونوعية الافكار التي تروّجها، وقبل هذا هو كاتب له تاريخ مديد ومضيء في حب العراق وأحد شيوخ الصحافة فيه، ولطالما كانت له جولات في الصناعة الثقافية في العراق منذ عقود بعيدة حتى عندما ظلّ خارج العراق لسنوات طويلة. ماذا أرادت الرصاصات الغادرة التي إستهدفته؟ هل تريد دفعه لمغادرة الفضاء العراقي العام والمكوث في جغرافية صغيرة فيه؟
تساءلنا كثيراً في عقود الدكتاتوريات السالفة: ماالذي ستنتفعونه من إشاعة هذا القدر الهائل من خوف يشلُّ عقول الناس ويجعلهم هياكل خاوية؟ السؤال ذاته يحضر اليوم مع فارق جوهري: دكتاتوريات الامس كانت بوجوه مكشوفة وأسماء معلومة؛ أما دكتاتوريو اليوم فإنّهم - وإن كانوا معروفين بعناوينهم العامة - لكنّهم يتخفّون تحت أستار وجوه مقنّعة مأجورة تعمل لخدمتهم وتطلق رصاصات الغدر على محبي العراق في قلب بغداد كما تشاء من غير حسيب أو رقيب.
هؤلاء القتلة لايريدون لأهل بغداد - والعراق بعامة – الفرح و التنوير الثقافي وعيش حياة طبيعية منفتحة ومتوازنة مثلما يفعل كلّ الناس في العالم ومنهم أناس قريبون منّا في دول الجوار. إنّهم يكرهون بغداد وأهلها وكلّ محبّ حقيقي لها وللعراق كلّه.
موهوم كلّ سياسي أو متنفّذ في المشهد السياسي العراقي لم يتعلّم الدرس ممّن سبقوه. من سبقوكم كانوا أشطر منكم. لاتنسوا هذا أبداً.