اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > برعوشا – بيروسوس: أول من ترجم المسمارية

برعوشا – بيروسوس: أول من ترجم المسمارية

نشر في: 25 فبراير, 2024: 10:25 م

د. حسين الهنداوي

(2)

"برعوشا" من اسمه الاصلي في اللغة الأكدية "بعل رعيشو"، ويعني "يرعاه بعل" في إشارة الى الاله الأعظم لدى البابليين (بعل/ مردوخ).

وقد يقابل هذا الاسم بالعربية: "مرعي" او "محفوظ" او "مبارك" او "محروس".. او ما شابه من الأسماء المقاربة في الدلالة على نيل، او الحلم بنيل، رعاية او بركة الاله الاعظم، وهي تسمية مستخدمة بشكل واسع حتى الآن وفي كل مكان وعند اتباع الديانات كافة. ومعلوم ان استخدام أسماء دينية الدلالة كهذه هو تقليد قديم في الثقافات الشرقية والغربية على حد سواء.

وإذ لم نجد له ذكر في كتابات مؤرخينا المسلمين القدامى، فان اسم "برعوشا"، الذي حاولنا عبثا العثور او اشتقاق تسمية عربية بديلة انسب او اوضح له، هو تحوير للتسمية اللاتينية بيرُوسوس او بيرُوسس Berossus الأكثر شيوعا والاقدم لدى الكتاب اللاتينيين القدامى عند الحديث عن هذا المؤرخ البابلي الذي عرف بهذا الاسم شهرة عالمية واسعة خلال الفترة الهلنستية خاصة حيث اعتبرت مؤلفاته وخاصة كتابه (البابلونيكا)، بمثابة المصدر الأكثر دقة واصالة عن احوال المجتمعات والحضارات العراقية القديمة السومرية والبابلية والاشورية والكلدانية وحتى السلوقية التي عاصر بداياتها، علما باننا لم نسجل ذكر مؤلفات أخرى قد تكون موجودة له.

لا يُعرف تاريخ ولادة برعوشا ولا تاريخ وفاته على نحوٍ دقيق. بيد ان المعلومات الضئيلة والمتفرقة التي استطعنا جمعها من المصادر الغربية عنه، تفيد بأنه رأى النور في مدينة بابل في النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وعلى الاغلب في حوالي عام 340 ق.م. وتوفي نحو عام 250 ق.م. وبالتالي يكون قد عاش ما يقارب التسعين سنة. اذ من الشائع جدا انه كان يافعاً إبان حكم الاسكندر المقدوني لبابل بين عامي 331 و323 ق.م، كما عاصر فترة حكم الملك سلوقس الأول، مؤسس الدولة السلوقية وحاكمها بين عامي 358 و281 ق.م، ثم فترة حكم ابنه من زوجته الشرقية او الفارسية وقيل البابلية، الملك أنطيوخس الأول Antiochos1 (324-261 ق.م). المولود في العراق والمتوفي في سورية والملقب بـ "سوتر Soter " وتعني "المخلّص"، وحكم من 281الى261 ق.م، واشتهر بتباهيه بأصوله البابلية، وحبه لحضارة بلاد ما بين النهرين، ودعوته الى ترجمة آدابها وعلومها الى اليونانية، وتكريم مفكريها وعلمائها ومنهم برعوشا الذي تشير مصادر عديدة الى ان هذا الملك أعجب بسعة علمه وعمق افكاره وفصاحة لسانه فأمره بتدوين مؤلف شامل عن التاريخ البابلي كي يطلع عليه اليونانيون الذين زاد توافدهم للإقامة في العراق في تلك الفترة، فكان كتابه "البابلونيكا" بثلاثة اجزاء.

ويذكر بعض مؤرخي حملة الإسكندر على بابل، أنه وبعد اعلان رغبته باتخاذ بابل عاصمة لامبراطوريته التي تجمع بين الشرق والغرب لأول مرة في التاريخ، دعا قادة جنده الى الزواج من بابليات لتعزيز الوجود السكاني الاغريقي الوافد الى عاصمته الجديدة بابل وهو ما فعله قائد جيشه وخليفته على العراق والشام وإيران سلوقس الأول، فيما اتخذ هو نفسه من ابنة خصمه الملك الاخميني المهزوم دارا الثالث زوجة له. وفكرة الزواج من بابليات نجدها عند الاخمينيين وذلك عندما ارغم دارا الثالث نفسه سكان امبراطوريته على ارسال نحو خمسين الفا من النساء الى بابل للتزاوج مع من ظل على قيد الحياة من الرجال البابليين كي تستمر الحضارة بعد ان امر بوضـع ثلاثة الاف من أعـيـان الـمـديـنـة عـلى خـوازيـق مـزّقـت أجـسـادهـم، كما جاء في "تاريخ هيرودوت" المؤرخ الاغريقي الشهير (ترجمة عبدالاله الملاح، ص 291) بعد ان ادرك دارا حاجة امبراطوريته لهم كرواد في صناعة الحضارة.

على صعيد مواز، يذكر المؤرخون اللاتينيون ان الملك أنطيوخس الأول امر باعادة الاعتبار لمكانة رجال الدين البابليين الذين قمعهم الاخمينيون من قبل بقسوة انتقامية بالغة، كما امر بإعادة بناء المعاهد والمعابد البابلية الرئيسية التي هدموها وفي مقدمتها معبد نابو في بورسيبا، وكذلك معبد مردوخ في بابل المعروف بـ "الايساغيلا" ("أي ساغ ايلا" É-SAǦ-ÍL.LA,)، أي "بيت الاله الأعظم".

والحقيقة اننا لا نعرف جيدا الى الآن، طبيعة علاقة الحكام السلوقيين مع النخب الكهنوتية والثقافية البابلية. بيد ان هناك من لا يستبعد ان يكون انطونيوس الاول شعر بميل الى بعض عقائد الديانة البابلية التي بدت اعرق واغنى واشمل من الوثنية الاغريقية لا سيما مع ما نتوقعه من تأثر بديانة امه الشرقية عي ذاتها.

ومهما يكن الامر، لقد عثر عالم الآثار العراقي الراحل هرمز رسام في عام 1880 على أسطوانة طينية في مدينة بورسيبا البابلية، باتت تعرف بأسطوانة الملك السلوقي أنطيوخس الأول او "أسطوانة بورسيبا" ايضا، وتحمل شكل نقش ملكي بابلي مدون باللغة الاكدية يذكر هذا الملك خلاله انه قام باعادة بناء معبد الايساجيل (معبد الاله مردوخ في مدينة بابل) ومعبد الايزيدا (معبد الاله نابو في مدينة بورسيبا) في القرن الثالث فبل الميلاد. ولفترة قريبة كانت هذه الأسطوانة (المحفوظة في المتحف البريطاني وتحمل الرقم(BM 36277) دليلا على تبني الاساليب الثقافية البابلية من قبل الملوك السلوقيين او هي من نتائج الاستخدام الايديولوجي للديانة البابلية من قبل الإمبراطورية السلوقية. ومما جاء في النص المدون عليها:

انا انطيوخس.. الملك العظيم

الملك القوي، ملك العالم، ملك بابل،

عندما دفعني قلبي

لإعادة بناء معبد الايساجيل ومعبد الايزيدا

وسعت أسس معبد الايزيدا

المعبد الحقيقي

معبد نابو في مدينة بورسيبا

نابو الوريث الاعظم

احكم الآلهة.. الفخور

الذي يستحق الثناء

الابن البكر للاله مردوك

من جهة أخرى، كانت تلك المعابد الكبرى تضم مكتبات مهمة مماثلة لمكتبة الملك اشور بانيبال التي ضمت اكثر من 1000 لوح طيني عائدة جميعا الى ما قبل القرن السابع قبل الميلاد. وكان برعوشا كبير الكهنة في بابل في تلك الفترة يستطيع الاطلاع عليها كما تشير بعض المصادر اليونانية النادرة عنه والمتبقية من العصر البابلي الهلنستي. ونحن لا نستبعد أيضا ان تلك المكتبة وسواها من المكتبات البابلية والاشورية الكبيرة ضمّت كتبا بلغات عدة اضافة الى البابلية، حيث تؤكد معلوماتنا الموثقة ان برعوشا اتقن عدة لغات لا سيما الاكدية والسومرية والبابلية والآرامية اتقانا تاما فضلا عن اللغة اليونانية التي ألف بها كتابه (البابلونيكا) بالاعتماد على مصادر اصلية خاصة ومنها سجلات ونصوص قديمة مفقودة حاليا، وتمثلت بآلاف الالواح والرقم الطينية المسمارية التي ليس من شك في انها كانت محفوظة ومرتبة في مكتبة المعبد الرئيسي والمعابد والمعاهد البابلية الأخرى وكان اول من يترجمها الى لغة حية هي الاخرى. ويبدو ان برعوشا حافظ على اسلوبها الأصلي الذي تميزت به الامر ما منح روايته مصداقية عالية لدى معاصريه. وهذا يدل أيضا على اعتقاد برعوشا بأهمية وثراء معلومات تلك المصادر الاصلية وضرورة وقوف المؤرخ عليها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram