اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في انتظار غودو .. بين العدمية الساخرة والألم الصامت

في انتظار غودو .. بين العدمية الساخرة والألم الصامت

نشر في: 25 فبراير, 2024: 10:32 م

أوس حسن

كان صموئيل بيكيت كغيره من رواد المسرح الطليعي في معاصرته للسوريالين والدادئيين، وقد تأثر بالافكار الفلسفية الوجودية في أوروبا وفرنسا، إلا أن تاثره كان صامتاً، فقد ظل يراقب ويتأمل العالم وما آلت إليه أحوال الإنسان من بؤس وانهزام وانحطاط.

لقد جاء بيكيت من عالم الرواية إلى المسرح، وقيل أن مسرحية "في انتظار غودو" التي كتبها عام 1948 كانت مادة روائية، لكنه وجدها مادة جديرة أكثر بالمسرح بسبب تخللها عدد من المشاهد الحوارية.

ما يشدنا ويستفزنا في مسرحية " في انتظار غودو" هو هذا الترقب الذي يلقي بنا في قلب المتاهة، وهذا الانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، فلا شيء يؤدي إلى شيء، ولا طريق تؤدي إلى طريق، الزمن نفسه يتكرر في سكون مرعب، والأشخاص نفسهم يتكررون، إلا أن الزمن قد ترك أثره القاسي فيهم، أما الحركة فهي مستمرة لكنها دائرية كالزمن الذي يعود ويتكرر، أما الأمكنة فهي ذاتها يرتادها ذات الأشخاص بشحوبهم المتبدي كالموتى، بغرائبيتهم، وما يسود هذه الغرابة من تفاهة وملل و فكاهة سوداء.

يرى بيكيت أن لا شيء يثير السخرية والضحك أكثر من البؤس والشقاء، فالفكاهة عند بيكيت هي عنصر احتجاج، عنصر تخريب وتدمير، لكنها بالدرجة الأولى هي عنصر تمرد ورفض وإثم.

إلا أن الفكاهة بطبيعتها السوريالية تجعل الإنسان يعلو على تفاهة العالم وعلى الموت وكل آلام الوجود.

إن فلاديمير وإيستراغون هما الشخصان الرئيسيان في محور الحدث، و اللذين يقفان عند طريق ريفية مساءً قرب شجرة، فكل ما يتم بينهما من أحاديث ومواقف كوميدية وتفاهات، يدور ويعود بنا إلى نقطة الحدث الساكن الذي يقلقنا بغموضه، وهو انتظار غودو الذي لا يعرفانه ولم يلتقيا به أبدا ً، ثم نرى أن شخصين آخرين قد انضما إليهما وهما بوزو... ولا كي، فيظنان أنه غودو، فيخيب ظنهما عندما يخبرهم أنه ليس غودو بل بوزو، فتعود الأجواء غارقة في فراغ عدمي وسديم موحش، لكن العنصر الغرائبي في المسرحية ليس فقط في طبيعة الحوار وما يلفه من غموض الانتظار

بل في الغرابة التي تصبح مألوفة عندما نرى لاكي مقيدا بوزو بحبل من رقبته كالكلب، و يعامله معاملة عنيفة بالرفس والضرب والشتائم، ثم يطلب منه أن يرقص ويغني وحتى أن يفكر، إن هذه الغرابة تصبح رويدا ً.. رويدا ًمألوفة عند فلاديمير وإيستراغون، فنراهما يتسائلان بكل سذاجة عن لاكي.. هل مات؟

وكذلك عندما يسقط بوزو في الفصل الثاني يكرران نفس الجملة، لكنها لا تخلو من فكاهة وسخرية، وهذه السخرية هي سخرية من الموت الذي يفقد كل معنى إنساني أمام هذا الوجود وعبثيته، كما أن فلاديمير وإيستراغون مقيدان بالانتظار، الأمر الذي أدى بهم إلى العجز عن فعل أي شيء في هذه الحياة سوى الثرثرة والتفاهة غير المجدية والتي تحاول أن تجد لها معنى عميق في الانتظار، فنراهم عاجزين عن إنقاذ لاكي، عاجزين عن الرحيل، عاجزين عن الضحك، وحتى عن الانتحار، إن العجز هنا هو فقدان للحرية والإرادة

عندما ينوي فلاديمير وإيستراغون أن ينتحرا نرى أنهما يتراجعان، إما لأن الحبل كان قصيرا ً أو لأن أحدهما كان أثقل وزنا ًمن الآخر، لكن بعد كل شيء نراهما يعودان للسبب الرئيس الذي يمنعهما من الانتحار وهو انتظار غودو الذي لا يأتي.

إن فلاديمير وإيستراغون يضيعان في الزمن، بل إن المتأمل في بعض كلمات الحوار قد يظن أن أحداث المسرحية تجري في بعد آخر خارج زماننا الأرضي

تتكرر الأحداث في المشهد الثاني قرب الشجرة في الطريق الريفية، يقف فلاديمير وإيستراغون في انتظار غودو، ويدخل عليهم ثانية بوزو ولاكي، لكن بوزو هذه المرة أعمى ولاكي أخرس، فيتحدثان عن الأحداث التي جرت البارحة مع بوزو ولاكي، لكن بوزو لا يؤكد ولا ينفي، الأمر الذي يوقعنا أكثر في الغموض والغرابة، وعندما يسألانه متى أصبحت أعمى، ومتى أصبح لاكي فيه أخرس فيجيبهم بغضب: "ذات يوم، ألا يكفيكم أنه يوم، كباقي الايام صار فيه أخرس، وذات يوم صرت فيه أعمى، وذات يوم سنصبح بكماً، ذات يوم وُلدنا، وذات يوم سنموت، اليوم ذاته، اللحظة ذاتها، ألا يكفيكما هذا؟ إن النساء يلدن الأطفال والقبر بين أقدامهن. ويتلألأ الضوء لحظة ثم يأتي الليل مرة أخرى".

تجسد مسرحية " في انتظار غودو" مأساة البشرية برمتها أمام رعب الوجود وتناقضاته الصارخة، كما أنها تضع الإنسان وحيدا ًأمام مصيره ووجوده العاري، وإذا كان وجود الإنسان هو موضع تساؤل وبحث عند الكثير من الفلاسفة والمفكرين، فالمسرحية قد توحي لنا أن الإنسان مجرد ظاهرة عشوائية لا معنى لها.

كذلك فالجريمة والموت والعذاب هي أمور لا معنى لها أيضاً، والإنسان المستلب المقهور الفاقد لحريته وإنسانيته يرمز له لاكي الذي يكون مربوطا ًبحبل من قبل سيده بوزو.

إلا أن الحبل الوهمي الذي كان يلتف على عنقي فلاديمير وإيستراغون هو حبل الانتظار، وهو أقسى وأشد مرارة، لأنه يمثل الخضوع والعبودية لكافة الأفكار والمعتقدات والأوهام التي نظن أنها تشكل ماهية وجودنا البشري. كذلك غياب غودو لا يحفز على إنتاج قيم عليا ووجود أصيل بل على العكس تماماً إنه يكشف عن سخافة الوجود الإنساني ومهزلته، والإنسان في هذا العالم هو سجين نفسه واسمه وعائلته والمجتمع الذي يعيش فيه، إضافة إلى عاداته وطريقته في التفكير، كل هذه الارتباطات لا يستطيع الإنسان الفكاك منها، أو التمرد عليها بشكل مطلق، لأن التمرد هنا هو مصير الإنسان المحتوم بالموت الأكيد، والميتة التي يلاقيها الإنسان الوحيد المهجور في هذا العالم قد تبدو للبعض أنها ميتة لا تليق بالإنسان وكرامته، لذلك فالإنسان هو في حالة خوف وترقب دائم من المجهول، وبناء عليه فإنه أي الإنسان هو عاجز أمام الخيارات التي تمنحها له الحرية، وغالبا ًما يهرب الإنسان من هذه الحرية ليجد نفسه مكبلاً وراضياً أمام عبودية مختارة لا فكاك منها.

وبما أن شخصيات غودو تفتقر إلى الحرية، فإنها تكاد تخلو من القلق واليأس، فالقلق واليأس هما شرطا الحرية عند الفلاسفة الوجوديين، وحده العجز البشري من نستطيع أن نلتمسه في تلك المسرحية؛ العجز في مواجهة الملل والتفاهة وانعدام الحرية والمعنى.

العبث بين كامو وبيكيت

إن قاعدة التكرار والعمل اللامجدي عند ألبير كامو في أسطورة سيزيف يجسدان كثيرا ً من الجوانب في هذه المسرحية، فعمل الإنسان وآماله البعيدة وطموحاته ليست سوى تعبير عن لا جدوى هذا العالم، أما الانتظار فهو سمة الكائن البشري الذي ينتظر حدثا ًما أو مخلصا ً يخلصه من هوة العدم، لكن العالم اللامجدي يأخذ نبله أكثر من العوالم الأخرى كما يرى كامو

فاللاجدوى هي تمرد على الأمل وتحرير لروح الإنسان من أوهام هذا العالم وقيوده المستبدة.

أخيرا ً يمكننا أن نصل إلى نتيجة ختامية لفكرة العبث، وهي رفض الانتحار والاستمرار في الصراع اليائس بين التساؤل الإنساني وصمت الكون.

إذن, فالتفكير العبثي يعترف بالحياة الإنسانية على أنها الخير الضروري الوحيد الذي يجعل المواجهة ممكنة بين الإنسان والكون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram