د. طلال ناظم الزهيري
إن تعريف مواقع التواصل الاجتماعي على أنها شبكات اجتماعية فقط يعد تجاهل غير مقصود عن التأثير العميق الذي أحدثته على عالمنا. إذ لا يمكن أن نتغاضى عن أن ظهور تلك المواقع كان قد أسهم في إحداث تغيير جذري في الطريقة التي نتواصل بها مع الآخر
وكيف نشارك المحتوى ونعبر عن آرائنا بحرية ودون قيود. لقد أسهمت هذه الشبكات في تمكين الأفراد من نشر المحتوى الخاص بهم ومشاركته بسهولة مع جمهور متنوع من الأصدقاء والمتابعين، ومع توجه الشبكات الاجتماعية نحو تقديم خدمات التسويق والإعلانات التجارية التي تتطلب الوصول إلى جمهور عريض، كان عليها التغلب على الحواجز اللغوية والجغرافية، والاعتبارات الطبقية والعمرية، وتخفيف قيود وإجراءات التسجيل إلى الحد الأدنى، فضلا عن العمل على استحداث وتطوير خدماتها، الأمر الذي ساهم في زيادة كبيرة في عدد مستخدمي تلك الشبكات حتى أقترب عدد المشتركين في عموم الشبكات الاجتماعية من 5 مليارات مستخدم على المستوى العالمي.
إذ يشير موقع (Global social media StatISTICs) في أحدث إحصائياته إلى أن هناك 4.76 مليارات مستخدم فاعل في عموم وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم حتى نهاية عام 2023، أي ما يعادل 59.4٪ من إجمالي سكان العالم. مع هذا العدد الهائل من المستخدمين وفي بيئة جامعة تحمل في طياتها العديد من التناقضات على مستوى الثقافة والعادات والتقاليد، فلا شك أنها كانت خصبة لانتشار الظواهر والممارسات البعيدة عن القيم المجتمعية السائدة هنا أو هناك. فما هو جائز ومباح في الغرب قد لا يكون كذلك في الشرق والعكس صحيح. ورغم اعترافنا بأهمية التقارب بين الثقافات وتبادل المعرفة والاستفادة من مظاهر التقدم العلمي والحضاري بين الشعوب، يجب علينا أيضا احترام الخصوصيات التي تميز كل مجتمع عن الآخر. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في الطريقة التي يمكن بها تحقيق هذا الهدف. خاصة وأن الفضاء الرقمي اليوم هو مساحة مفتوحة ومن الصعب الالتزام بشروط محددة تناسب الجميع على نوع المحتوى أو طريقة تقديمه. وبالتالي، ترك للمستخدمين من صناع المحتوى الحرية المطلقة في اختيار نوع المحتوى وطريقة عرضه. دفع هذا بعضهم، ولاعتبارات الربح في النتيجة النهائية، إلى المبالغة في تجاهل بعض القيم المجتمعية وتجاوزها من خلال نوع وطريقة تقديم المحتوى الذي يغلب عليه جانب الإثارة والتفاهة والسطحية، مقابل نسبة محدودة جدا من المحتوى الهادف.
وفي سياق متصل أجبرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية شريحة كبيرة من الشباب العربي على التوجه نحو شبكات التواصل الاجتماعي من أجل الترويج لهواياتهم ومهاراتهم على أمل أن يحققوا الشهرة التي يطمحون إليها في المجال الذي يبرعون فيه. وهذا جانب إيجابي لا جدال فيه.لكن مع ظهور منصة TikTok والتسهيلات التي قدمتها لبث مقاطع الفيديو في فترة زمنية محددة مسبقا. هذه الأمور مجتمعة ساهمت في تحويل أنظار معظمهم إلى هذه المنصة لمشاركة محتواهم من مقاطع الفيديو التي يغلب على أكثرها كما اشرنا الجانب الترفيهي والسطحية إذا جاز التعبير!. مقابل ندرة المقاطع الهادفة التي تحمل رسائل إنسانية واجتماعية مهمة. بالتالي مشكلتنا اليوم، هي في تنامي ظاهرة مشاهير TikTok الذين غالبا ما كان لهم تأثير سلبي على ثقافة ومواقف المجتمع المتلقي في جميع أنحاء العالم العربي، خاصة أولئك الذين تنقصهم الثقافة الرقمية. ومع الأرباح المادية التي تقدمها المنصة والمشروطة بعدد المشاهدات والمتابعين وعدد المقاطع بادر الكثير من الذين يطلقون على أنفسهم صناع المحتوى إلى التمادي في نوع ومحتوى مقاطع الفيديو التي تبث من قنواتهم لتشمل كل شيء تقريبا حتى تلك الأمور التي كانت تعد من المحرمات في منظور المجتمع العربي. لقد بات من الأهمية بمكان تسليط الضوء على تنامي ظاهرة مشاهير TikTok في العالم العربي والأثر السلبي الذي يمكن أن يحدثوه على ثقافة ومواقف المجتمع مستقبلا، واليوم بات لزاما علينا أن نثقف على أهمية الاستخدام المسؤول والأخلاقي لوسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما فيما يتعلق بنوع ومحتوى مقاطع الفيديو التي تتم مشاركتها على TikTok. كما نؤكد على ضرورة الالتزام بثوابت الاخلاق الرقمية لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بصرف النظر عن دورهم في النشر أو التلقي وذلك للحد من انتشار المحتوى الذي قد يكون غير مناسب أو مسيء أو ضار. والذي قد يكون له تأثير سلبي على ثقافة المجتمع وقيمه مستقبلاً، بالتالي، فإن فهم ظاهرة مشاهير TikTok وتأثيرهم على الشباب العربي أمر مهم لضمان الاستخدام المسؤول والأخلاقي، لأجل حماية القيم والهوية الثقافية للمجتمع، من دون التجاوز على مبادئ حرية التعبير التي تكفلها الدساتير. وتجدر الاشارة الى إن التبني الواسع للتقنيات الرقمية والإنترنت من قبل مختلف شرائح المجتمع قد ساهم بشكل مباشر في تطوير المفهوم التقليدي للمواطنة لاكتساب بعد جديد وهو المواطنة الرقمية. والتي تشير، وفقا لمعظم الخبراء في هذا المجال، إلى الاستخدام المسؤول والأخلاقي للتكنولوجيا والموارد عبر الإنترنت، والقدرة على المشاركة في مجتمع رقمي بطريقة آمنة وإيجابية. والجدير بالذكر إن مفهوم الصلاح في البيئة الرقمية لا يتخلف عن مفهومه في البيئة الاجتماعية التقليدية. باستثناء متطلبات التعامل مع التكنولوجيا.
لذلك، يمكن القول إن مفهوم المواطنة الرقمية الجيدة سيكون مفهوما نسبيا يختلف من شخص لآخر اعتمادا على المهارات التكنولوجية المكتسبة، حتى مع الاعتراف بأن دوافع الإصلاح نفسها موجودة لدى الجميع. من هذا المنطلق فإن التنشئة الصحيحة للمواطن الرقمي سوف تركز على اكتساب المهارات وتطوير القدرات والقابليات للتعامل مع البيئة الرقمية سواء تم ذلك من خلال الأسرة أو المؤسسات التعليمية المختلفة، على أن يتم التركيز على استخدام التكنولوجيا بعناية ومسؤولية. واتخاذ التدابير الضرورية لحماية المعلومات الشخصية. كما نؤكد على أهمية توجيه الطلاب على التفكير قبل نشر أو تشارك أي شيء عبر الإنترنت ومراجعة التأثير الذي قد يكون للمنشور أو المشاركة على الآخرين. ولعل التثقيف على احترام خصوصيات الآخرين عبر الإنترنت وتجنب الابتزاز الإلكتروني والسلوكيات الضارة الأخرى. والالتزام بممارسة الآداب الرقمية الجيدة. واحترام حقوق الملكية الفكرية. لا بد أن تكون مضامين تربوية حاضرة في المؤسسات التعليمية كافة. ومن هذا المنطلق ندعو وزارة التربية العراقية الى النظر في امكانية استحداث منهاج دراسية تتخصص في مضامين المواطنة الرقمية فضلا عن اهمية تنفيذ برامج ثقافية وتوعوية تهدف لتحقيق هذه الغاية.