شاكر السامر
يبقى الفنان "كريم سعدون" مُبدعاً متماهياً مع عراقيته وهو يعيش في غربته محافظا على روحه وذاكرته المشبّعة بوطن يحمله قلبه،
وهو يبثُّ تجسيداً لإنكسارات الانسان- المواطن في لوحات وتخطيطات محملة بالكثير من الأسئلة التي تشير الى مكابداته في جلجلة حياته المحاطة بالحروب المتكررة والكوارث، وبالقهر والغربة المأسورة بإرادة السلطة، لتغذي شعوراً بالأمل بحتميّة تحقيق الحلم واقعاً وليس تخيّلاً.. يرسم السعدون لوحاته للجسد كصرخة رفض للأسباب التي أدّت الى تلك الانكسارات والخيبات أي بمعنى آخر هو صرخة إنسانية وإعلان واستهجان واستنكار غاضب للقوى التي تملك الإرادة في تدبير الحروب التدميريّة للشعوب وحضاراتها، تلك الشعوب التي أضحت الرهان المتاح والرخيص الذي تستند عليه الحكومات البغيضة والجائرة والتي لا يهمها مصير الشعوب بعد أن امتصت كلَّ خيراتها ورمتها في بحبوحة من الفقر والجوع والذل والترمّل ونكد العيش وسوء المصير والمستقبل.. وما عبّر عنه "كريم سعدون" كما نراهُ نحنُ هو عين ما يعيشه الإنسان في حياته القلقة، في بؤس الحاضر وشبح المستقبل وتهجين الإنتماء وفوضى التحوّل للماديّة المطلقة، تعبث فيها الأهواء الوحشيّة فيمكث العقل حائراً بما يدور حوله من ظروف قاهرة، فهل من تأويل للوحة فنّان تقطّرُ أنامل ريشته بدلالات الغُربة دون أن تعطي للفكر مجالاً للتحرّر من التأويل المضغوط بسندان العالم الواسع ومطرقة القهر الروحي؟، فحين تستنفذ التعابير المستهلكة والمألوفة في الفن البصري الهادئ تنفجر براكين التجدّد بحداثة ما هو غير مرئي للعين وكأننا ندخل غابة من اسرار لا تفك رموزها مهما اقتربت منها، هو العمق الذي يكتنز تعبيراً حيوياً عن الواقع المعاش والحلم الذي يشكل نقيضاً له.. وهكذا تتراءى لي لوحاته كبصمات تنقش في صفحة فن خالد فوق صفيح بحر متلاطم من الأسماء.
لذا اقول: إن الفنان "كريم سعدون" ومن خلال لوحاته يحاول أن يصنع علامته الفارقة في مسيرة الفن التشكيلي العراقي المعاصر.. وهو فعلاً كذلك ومن حقه، بل نجح في مسعاه الجاد والمتفائل حدّ الوعي الكامل بما ينجزه من أعمال بمداها الواسع وأهميتها في حاضرة الفن.. إن الاستلاب الذي نعيشه كمجمتعٍ وثقافةٍ وسياسةٍ واقتصادٍ، هو الذي ولّدَ هذا المنهج الفني لريشة الفنان السعدون.. فمثلما تفرز الإرهاصات السياسية للمجتمعات حركاتٍ وأحزاباً، كذلك تولِد تلك الارهاصات وبكافة أشكالها فنانين متميّزين ونادرين يمثّلون الأبناء الشرعيين لمجتمعهم ومعبّرين عن ما يتعرض له من كبوات وانكسارات وما يتطلعونه الى الحلم بمستقبل آخر له، فأضحى الفنان التشكيلي "كريم سعدون" من الفنانين العراقيين البارزين وهو يشتغل منذ سنوات على ثيمة "الجسد"حيث جعل منه تعبيراً وانعكاساً لآثار الحروب وتداعياتها على النفس البشرية التي تضمخّت بالغُربة داخلياً وخارجياً إضافة الى مكابداته وأحلامه التي تتماهى مع كلِّ مَن عاش في خضمّها وتوتراتها، فكان صدور كتاب(سؤال الجسد / حوارات في أعمال كريم سعدون تقديم: محمد عواد) ليوضح هذه الحقيقة، هذا الكتاب الصادر عن بيت الكتاب السومري، وهو كتاب يضم في جنباته مجموعة كبيرة من الحوارات التي نُشرت في الصحافة العراقية والعربية، أجراها عدد من الباحثين والنقاد والصحفيين من بلدان مختلفة تركّزت حول تجربة الفنان العراقي "كريم سعدون" ومساراتها منذ البدايات الاولى مُروراً بالمؤثّرات التي حركتها وأنضجت ظهورها وصولاً الى ماهي عليه الآن، وتشعّبت الأسئلة لتشمل جوانبَ مختلفةً منها تغطي التجربة في كلّيّتها يمكن من خلالها التعرّف اليها ومعاينة بنيتها وتطوّرها وكذلك معرفة الكيفيّة التي يفكّر فيها الفنان في انتاج أعماله وكيف عمل عليها في بيئات مختلفة بدءاً من دراسته في العراق ونشاطه الفنّي عبر نشر أعماله في الصحافة العراقية ومشاركاته في محافل فنيّة تتوزع في بلدان عديدة وصولاً الى إستكمال دراسته في بلدان أُخرى لإنضاج هذه التجربة والسعي الى أن تكون مواكبةً لتطوّرات الفن المعاصر، ويعتبر هذا الكتاب وثيقةً لمعاينة هذه التجربة عن قرب وفهمها من خلال إجابات الفنان على الأسئلة التي حاوره بها مجموعة الأساتذة المختصّين.
طبع الكتاب بحجم متوسط وبصفحات تجاوزت المائتي صفحة تشمل عدداً مختاراً من الأعمال الفنيّة للفنان وبتقديم خاص من الباحث في الجماليات العراقي"محمود عواد"، الذي إقترح فيها العتبات التي يمكن من خلالها معاينة النتاج التشكيلي للفنان "كريم سعدون"، ومعرفة آليّات إنجازه، حيث كشف الباحثُ البؤرةَ التي تشكّل أساساً لفهم العلاقات الشكليّة وترافقها مع الفكر الذي ينتظم فيها، وتسهّل تلقّي النتاج الفنّي له والتفاعل معه فقد كتب الناقد عوّاد: (أن ثمة فرادة إنمازت بها أجساد "كريم سعدون"، فقد إستطاع أن يطرح جسداً مسرحيّاً خشبته العين الطرسيّة الباصرة، فعند الإمعان في كالتــلوغه نرى بأن تلقّي أعماله يستدعي حضوراً ذاكراتياً، وهذه المـــزية تكشف لنا رهانه على الحضور التلاسني في الشكل وليس في نص الحوارات الواردة في هذا الكتاب فحسب، وهذا التلاسن الذاكرتي المستلزم إمتلاكه في الإحتفاء بأجساده ناجم عـن بحثه الدائم عن مخطوطة الوجود المفقودة التي هي الجسد، ومـن وجهة نظري أن كل ما قدم من أشكال بصريّة هي أجساد سيمولاكرية تسعى جاهدة إلى مجــانبة تصوره للنسخة الأصل، ويظهر الحس السيمولاركي في نصّه البصري "السياب" وهُنا ثمة إستفهام مفاده:(كيف إستطاع الفنان أن يجمع بين السيمولاركر والطرسيّة والجذمور في عمل واحد؟.) وقد أجاب الناقد على ذلك في مقدمته المهمّة للكتاب، كما حاور الفنان في أسئلة إستطاع من خلالها إستدرار الفكر الذي يقف خلف أعماله التشكيليّة التي قدّمها والكشف عن الكثير من مفاصلها.
ففي إجابة على سؤال الناقد عوّاد قال الفنان: (أسعى في العمل الفني لإنتاج نصٍ مفتوحٍ ويسعى هو أيضا الى فتح أُفق التلقّي، وهذه العلاقة التي أحاول تأسيسها يمكنها كما أعتقد تحرير المسافة بين المتلقّي والعمل الفنّي من كل ما يتعلق بالحقائق والمدركات المُسبقة فهي مسافة ملأى بالأسئلة، والعمل الفني بما أراه هو جسد باث أؤسس من خلاله لحوار بين الجسد الموجود فيه والجسد الآخر وتوجيهه لإنتاج أسئلة متعدّدة، هذا الجسد هو إستعارة لجسدي الذي يخضع لسلطة الآخر وهيمنته عبر نص لا يمكن تجاوزه بسهولة، لذلك أفصله من وجوده الواقعي المكاني والزماني والمعنوي المحيط به لأصنع منه معنىً لوحده.