حيدر المحسن
1
في علم اللّسانيات تُعتبر اللّغة أكبر من الحضارة، فهي الدافع والمحرّك والمسؤول الأول عنها، ولكي تصنع لغة ما حضارة معينة فإنها تحتاج إلى 850 سنة من الممارسة. وإذا علمنا أن الجيل في علم الإجتماع يمثّل ثلاثة عقود، أي أن حوالي ثلاثين جيلا تنجبه ظهور نساء ورجال أقوياء وأصحّاء، هم الذين سوف يحملون سقف هذا الصرح ذي البناء الفريد، والأوحد.
بالإضافة إلى اللغات القديمة، وتلك الضاربة في القدم، بحروفها وأصواتها التي انقرضت منذ مئات الألوف من السنين، أو الملايين، هنالك الأحرف الصائتة الأولى التي تكوّن اللغة الغُفل من الاسم، وهي لغة جميع البشر، وقد انخرط العلماء منذ زمن طويل في البحث عن تلك اللغة البِدئيّة. من هيرودوت جاءنا أن الفرعون المصري إبسماتيك حاول اكتشاف هذه اللغة بالتجربة؛ أخذ رضيعين حديثَي الولادة من أُسر عادية وأعطاهما إلى راع ليقوم بتنشئتهما، مع تعليمات صارمة بأن لا ينطق بأيّ كلمة واحدة في حضرة الرضيعين. بعد سنتين من السكوت المطلق، استقبل الرضيعان الراعي ذات مساء بكلمة "بيكوز"، وهي تعني خبز باللّغة الفريجية، وهذه لغة سادت في الجزء الغربي من الأناضول في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. خلص الفرعون إلى حقيقة لم يكن يعرفها، وهي أن الفريجيين وليس المصريين هم أول الأقوام التي استوطنت الأرض. لو تخيّلنا أن ملكا فريجيا قام بهذه التجربة، ثم يقوم ملك القوم الناطقين باللغة الجديدة بتجربة مماثلة... بأيّ صورة قال آدم كلمة "حُبّ"، و"امرأة"، و"فتاة"، و"طفل"، وهل كانت تُغنّى الأناشيد مع الدبكات مثلما يفعل الآن أهل القرى، بل ماذا كانت تُسمّى واقعة الحرب؟
بعيدا عن الخيال المفرط، توصّل العلماء إلى أن اللغة الأولى كانت إيمائية، تصاحبها أصوات تشبه
ما هي الصدفة؟
هي اتفاق مجهول العلّة، ويقع في باب الصدفة لقائي الأول مع البحر، وكان ذلك في مدينة باكو، وكان يهدر في البعيد. للبحر رائحة الثياب القديمة، والأشياء القديمة، والحياة القديمة. تجوّلت على طول الشاطئ، ثم زرت قلعة باكو، ودرست كلّ ما مرّ فيها من أحداث، وفي المساء عدتُ إلى الفندق متعبا وملتذّا من هذه الرّؤية الجديدة، ونمتُ بعد أقلّ من دقيقة من رقادي. استيقظت في ساعة من اللّيل وأنا أردّد بصوت مسموع:
"أوولْيَه. أووليه. أووليه...".
لم أسمع بهذه اللفظة من قبل، وبقيتُ صاحيا في تلك الليلة، ولم أكن أشعر بالزمن البطيء أو السريع وأنا أصغي إلى الصّدى الغريب لهذه الكلمة وهو يعبر حاجز النوم ويدخل عالم اليقظة، ويسكنني. ثم عاد الهدوء إلى نفسي، وبدأت أفكّر في الأمر، وأحاول أن أتذكّر ما مرّ بي في الماضي، وأجد أثرا للكلمة في صفحات الكتب، أو الأفلام والأغاني التي أصغيت إليها بلغات أخرى، ولم أنتبه إلاّ والفجر يحتلّ النّافذة في الغرفة، وارتديت ملابسي على عجل ورحتُ أسير إلى ناحية البحر، وكانت أمواجه تردّد معي الكلمة ذاتها.
هل شاهدتُ الكلمة منقوشة في عالم الأطياف؟ لا أدري.
حلّ الصّباح، واتّصلتُ بأهلي في بغداد وفي العمارة أسألهم عن معنى "أوولْيه"، وبحثت في القواميس وفي النت وفي كلّ مكان استطاعت يداي التفتيش فيه، وليس ثمة معنى، ولا أثر يدلّ على أيّ تفسير. هل تكون أسطورة لها هذا الاسم وكان أسلافي البعيدون يؤمنون بها، وانقرضت بعد أن تراكمت فوقها حكايات وروايات وخرافات غطّت عليها؟
(يتبع...)