اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > قراءة في رواية (موت في العائلة)

قراءة في رواية (موت في العائلة)

نشر في: 2 مارس, 2024: 09:47 م
رنيم العامري
تُفجع عائلة تعيش في سفوح جبال سموكي في ولاية تينيسي الأمريكية في بدايات القرن العشرين، بموت الأب. يستيقظ (جاي فوليت) على اتصال هاتفي في منتصف الليل يحمل خبر احتضار أبيه،

ليقرر من لحظتها الذهاب لرؤية الأب المحتضر وهو على فراش الموت. لكن الموت الذي سنشهده ليس موت الجدّ، بل موت (جاي) نفسه. لا يمكن أن يُقال إنني هنا أُفسد الرواية على من لم يقرأها، لأن موت (جاي) ليس هو الحدث الرئيسي، ففي نهاية المطاف يعلن عنوان الرواية بصراحة هذا الخبر المشؤوم، وكل ما عليك الآن كقارئ هو أن تتتبّع تداعيات هذا الخبر على أفراد العائلة، وعندها ستجد نفسك وسط دوامة من المشاعر، ووسط مشاهد يألفها من مرّ بمثل هذا الحدث؛ بدءاً بتلقي خبر الموت، وإبلاغ الأقارب برفقٍ قدر الإمكان، والترتيب للجنازة، واستقبال المعزين، فعودة الجميع إلى منازلهم، ومن ثم الجلوس في صمت أمام المقعد الفارغ الذي كان يشغله الفقيد.
إنها رواية تتأمّل في الأسى، خالية من الحبكات المعقدة والفذلكات، لكنها في نفس الوقت تتحلى بجمال معيّن، متوارٍ وقصيّ ومكبوت، لا تبصره عين أيّ قارئ مترفع عن التلصص. يكتب المؤلف الأمريكي (جيمس آجي) بحساسيّة خبير، ولا عجب، لأنها رواية سيرة ذاتية تستند على حدث وقع في حياته، إذ توفي والده في حادثة سيارة في نوكسفيل عام 1915.
إن كل شخصية في الرواية تتأثّر بهذا الموت وتتعامل معه بطريقتها، بالصلوات أو التشكيك أو القوة أو اليأس. ولكن ثمة كبت أو إحجام في جوّ الرواية بأسره. لا أحد يتحدث جهراً عن المسرات أو الأحزان ولا عن الموت نفسه. هناك حزن وبهجة وأسى ووحدة وعزلة واحترام ومراعاة وحبّ ولوم وغضب، كل العواطف موجودة وإن كانت خفية أو مكبوتة، وتظهر فقط من خلال التلميحات والنأمات والجمل غير المكتملة والأفعال الصغيرة الحميمة. فها هي (ماري) زوجة (جاي) تستيقظ معه في منتصف الليل لتحضر فطوره، دون أن تعلم طبعاً أنها ستكون وجبته الأخيرة في المنزل. و(جاي) يقلق من إزعاجها ويقول لها أن تفكر بهدية لعيد ميلادها. العمة (هانا) تبتاع لـ (روفوس) قبعة من اختياره في ذلك الصباح، وتبقى إلى جوار (ماري) في المطبخ طوال الليل بانتظار سماع الخبر. الخال (آندرو) لا يتصل هاتفياً ليخبر أخته بخبر موت زوجها، بل يفضل العودة إلى البيت ويخبرها وجهاً لوجه -في فصل كامل- بتفاصيل الحادث بكلمات يتخيرها بعناية ويشدد أكثر ما يشدد على أن جاي لم يتعذب في موته ولم يخلف الحادث فيهِ إلا أثراً صغيراً في ذقنه. الجدة الصمّاء تقريباً تفضل ألّا تسأل كثيراً عن الكلام الذي لم تسمعه لأنها تقلق من الإثقال على ابنتها. الجد يأخذ ابنته على جنبٍ في غرفة المعيشة ليقول لها إنه سيكون إلى جانبها، متكفلاً عنها بالعبء المالي على الأقل. (كاثرين) الصغيرة، ذات الأربع سنوات، تخاف مما يحدث وتشعر بالوحدة وتختبئ تحت السرير أو تكتفي بالجلوس في صمتٍ بعد ارتداء أفضل ملابسها للجنازة. صديق العائلة (والتر ستار) الموجود دائماً من أجل العناية بالجميع، يخلع قبعته ويمسك عن الكلام وينسحب من البيت والدموع في عينيه. حتى الشخصيات الهامشية -إذا صحّ ان نطلق عليها ذلك- تقدّم التعاطف والمواساة؛ فالمتصل الغريب لا يخبر (ماري) بموت زوجها بل يطلب منها أن ترسل أحداً من الرجال. إنه بطريقته الخاصة يرعى تلك المرأة الغريبة زوجة الرجل الغريب المقتول. وزوجة الرجل الذي عثر على جثة (جاي) غطّت جثمان الميت بملاءة نظيفة، إنها ترعى الميت وتحترم الموت وتقدّم مواساتها بطريقتها الخاصة. (رالف) أخو (جاي) يشعر بالذنب ويريد أن يقدم يد العون في تحضيرات الجنازة والدفن. كلّهم لا يعبّرون ببهرجة عن عواطفهم، لكنهم هناك إلى جانب بعضهم البعض، كل واحد في عزلته يحمل همّ الآخر. حتى المشاحنات العائلية التي تحصل بين أفراد كل العوائل، لا تكاد تظهر حتى تنطفئ وهي لا تزال جمرة قبل أن تشتعل. بينما تأبى الأحداث أن تخرج من نطاق البيت أو أبعد من الناصية القريبة من البيت. وحتى سبب موت جاي ظل سراً، نحن نعرف بالتلميح أنه كان يشرب أكثر من اللازم، ولكن الكاتب لا يفصح عمّا إذا كان مخموراً أثناء قيادة السيارة ليلة الحادث. (روفوس) هو الوحيد الذي يصبح مكشوفاً منذ البداية، لأن (روفوس) هو (آجي). الطفل ذو السادسة من العمر، الذي ينتظر عودة أبيه ليُريه قبعته الجديدة، وبعدما يعلم بخبر موته، يحاول وحيداً أن يفهم طبيعة الموت، إما بطرح الكثير من الأسئلة على البالغين -الذين لا يجيبونه إجابة شافية على أية حال- أو من خلال محاولته التعامل مع الحدث -وحتى الاستفادة من وضعه الجديد كيتيم- بطريقته الخاصة. هناك أيضاً حوارات بين الشخصيات وتأمّلات حول الدين والإيمان، يتكشّف من خلالها الاختلاف في طريقة استجابة الناس للأحداث المأساوية التي تقع في حيواتهم، بالأخص الموت.
توفي الكاتب (جيمس آجي) عام 1955 إثر نوبة قلبية، وقد كان في الخامسة والأربعين من العمر. ونُشرت الرواية بعد موته بسنتين. وهي تقع في ثلاثة أجزاء، وهناك مقاطع مكتوبة بالخط المائل أُدرجت في النص خارج الترتيب الزمني لأحداث الرواية الرئيسية، بعدما رأى المحرّر أن من الوقاحة أن يخمّن المكان الذي كان (آجي) سيدرجها فيه. هذه المقاطع تحمل نبرة نوستالجيا، تبدو وكأنها استرجاع في الذاكرة، هذا هو (روفوس) البالغ يتحدث عن طفولته.
فازت الرواية بجائزة البوليتزر، كما تم تحويلها إلى مسرحية بعنوان (All the Way Home) أو كل الطريق عوداً إلى البيت، للمخرج المسرحي (تيد موزيل) التي فاز عنها هو الآخر بجائزة بوليتزر.
صدر الكتاب بطبعة مشتركة عن منشورات تكوين ودار الرافدين، ترجمته إلى العربية باقتدار يُشار له بالبنان المترجمة (إيمان أسعد). وهو برأيي كتاب يوجب التمهل في قراءته، ويجدر أن يوصى به.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram