TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مع السياب في المطعم

قناطر: مع السياب في المطعم

نشر في: 9 مارس, 2024: 10:58 م

طالب عبد العزيز

بعد أكثر من عقدين على ممارسة السلطة لم تتبلور لدينا فكرة ماذا يعني أن تكون للبلاد حكومة عراقية، تستقي سرَّ بقائها واستمرارتها من تراكم خبرات الذين تناوبوا على كرسي الوزارة هذه أو تلك. هناك سيادة محو قائمة في عقل الحاكم العراقي، إذْ لم تستطع الدولة صناعة تقاليد خاصة بها.

كل تشكيلة وزارية تأتي برؤية مرتجلة، ومنقطعة عن سابقتها، فالوزير يجرِّبُ، ولا يأخذ بتجربة سلفه، لأنه في الاساس متقاطع معه في حزبه وكتلته، وكثيراً ما يكون متقاطعا معه في طائفته. الهجنة في التركيبة الوزارية لا تنتج نسقاً حكومياً، قادراً على الاستمرار، وهناك أخطاء، بعضها كارثي ظلت تتجدد كل اربع سنوات.

يصعب على الباحث تعقب المفاصل الحكومية، التي تستدعي قولا كهذا، ولأننا في حديث الثقافة والفنون والآداب فسنشير الى ما نتلمسه بحكم علاقتنا وتماسنا معه. بالامس، وفي مطعم من الدرجة الأولى بالبصرة، كنتُ قد التقطتُ صورةً مع تمثال الشاعر بدر شاكر السياب. كانت إدارة المطعم قد وضعت نسخة منحوتة على مصطبة مفردة بالقرب من مدخل الحديقة، بوضع الجلوس، واضحٌ أنها من الفايبركلاس. يضع الشاعرُ ساقه على ساقه الاخرى، ثم أنها(الإدارة) تركت فسحةً من المصطبة الى جواره، ستُملأ بمن يريد أنْ تلتقط له صورة معه. ولعمري هي بادرة حضارية جميلة، للتعريف بواحد من رموز الثقافة العراقية.

قد ندرج بادرة إدارة المعطم في خانة الانتفاع التجاري، وربما جاءت عفويةً، مع الكثير من اكسسوارات المكان، التي تظهر حديقة المطعم بحلة مختلفة، لكنها تفتحُ الباب على امكانية تفعيل الثقافي والفني والادبي في الحياة، فوجود التمثال في الحديقة لا يختلف عن الموسيقى التي تبثُّ في الصالة، وقد تقع ضمن اختيار الانارة والمظلات والطاولات وغير ذلك، وهذا ما نشاهده في المطاعم والحانات والمولات في العالم، الذي نزور بعض مدنه. هناك عقلية ثقافية وفكرية تتساوق مع العقلية التجارية، وكلٌّ يريد تقديم أنموذجه، لكنهما يشتركان معاً في تقديم الهوية الوطنية للبلاد.

كلنا سمع أو يسمع في فترات مختلفة أغنية( الافندي) التي غنتها المطربة حسنية، أو حياة برواية حامد البازي رحمه الله، واشتهرت بصوت صديقة الملاية، والتي تتحدث عن الشخصية البصرية المعروفة، صبري أفندي- صندوق امين البصرة( 1875-1961( الذي عاش أواخر ايام الدولة العثمانية، والحكاية الشعبية الجميلة المروية عن قصة الاغنية، التي قراها بعضنا ومثلها الكثير والكثير في تاريخ المدينة، الممتد من القرن الاول الهجري الى اليوم. هل بيننا من لم يسمع بقصة الشاعر الجميل نصر بن حجاج، الذي نفاه الخليفة عمر بن الخطاب من المدينة الى البصرة بسبب وسامته وحسن طلعته وتشبيب النساء به؟ ثم ألا يمكننا إعادة خلق شخصية اسطورية ملأت دنيا العربية بالنفائس مثل الجاحظ واشاعتها بيننا عبر جعله حاضراً في شوارعنا، وابنتينا العامة والخاصة وتسويقه بوصفه علامة تشهد أمصار الدينا على اهميتها.

اضفاء صبغة ما دينية أو ثقافية او غيرها على مدينة مثل البصرة هو قتل لوجودها في التاريخ الانساني، إذْ أنَّ الملاحظ اليوم غلبة الصبغة الطائفية، على اسماء الشوارع والساحات والجسور والمدارس والمحال التجارية، وفي ذلك مجانبة لطبيعة التركيبة السكانية للمدينة، وفيها غمط لحقوق الآخرين، الاحياء والموتى منهم، من منا لم يسمع بطبيب الفقراء، الارمني كشيشيان، او توما هندو، أو فاضل زيّا، أو طلعت الخضيري، أو خالد العبيدي وهناك العشرات والمئات ربما من الاطباء والمحامين والمناضلين والعلماء والضباط والاساتذة الجامعيين وسواهم من مختلف طوائف واعراق البصرة ترى لماذا لا يعرّف بهم وبالشكل اللائق؟ ولماذا لا يقام لهم متحفٌ تقصده الناس، يتعرف فيه أبناء المدينة على من صنعوا مجدها.؟

قبل يومين، شدَّني أحدُ الخطباء وهو يتحدث من منبره الديني وبلغة مأنوسة وجميلة، نابعة من القلب، عن الشعر والسياب ومحمود البريكان والمفاضلة فنياً بينهما، وعن دور البصرة في اللغة والشعر والحداثة والمدنية والتحضر ولولا أنه أفاض في بعض فقرات خطبته على ما فكرَ فيه، وجاء من أجله، مؤكداً على صبغة المدينة الدينية، والبسها ثوب طائفة دون أخرى لكان نصيبه من حديثنا أكثر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram