ستار كاووش
لا أحد يعرف بالضبط ما يفعله السيد سيبراند! فهو يخرج من بيته أكثر من عشر مرات في اليوم الواحد، ويعود في كل مرة محملاً بعدد من الأكياس التي لم يستطع أحد من الجيران التعرف على محتوياتها، ولا التوصل الى المصدر الذي يجعلها منتفخة هكذا.
حين إنتقلتُ الى بيتي هذا، كان بيت السيد سيبراند فارغاً، لكنه ظهر فجأة بعد بضعة أشهر، بعد أن أوصلته سيارة المستشفى الى بيته، وقد بدا لي بأنه قد تَعَرَّضَ لحادث أدى الى كسر رقبته وجعل رأسه مَحنيَّاً على صدره ويأخذ وضعاً ثابتاً، حيث لا يستطيع رفع نظره الى الأعلى ولا يمكنه رؤية أحداً تقريباً، وهكذا مرَّتْ الأيام وهو يقضي كل وقته مطأطيء الرأس، مصوباً نظره الى الأرض. لدي سيبراند عربة صغيرة أو مَشّاية -من تلك التي يستعملها كبار السن لتساعدهم على المشي- يدفعها أمامه أثناء جولاته التي تبدأ منذ الصباح الباكر، لكنه مع ذلك كان يمضي بسرعة لا تتناسب مع حالته، مما يجعل الأكياس البلاستيكية الفارغة التي يعلقها على أطراف عربته تتحرك مثل الأجنحة الملونة. وعند عودته من كل جولة، تكون هذه الأكياس قد إمتلأت وصارت منتفخة. لقد حاولتُ مراراً، لكني فشلتُ في معرفة محتويات الأكياس، كما عجزتُ في معرفة الجهات التي يعود منها جاري غريب الأطوار. هكذا تتكرر جولاته لا يلوي على شيء ولا تعيقه نظرات الجيران المترقبة، وفي كل الاحوال هو لا يرى منا سوى أقدامنا وسيقاننا، ولا يمكنه التعرف على شخصياتنا وأشكالنا، ويخاطبنا غالباً من خلال أرقام بيوتنا. فحين أوصلتُ له بريده الذي جاءني ذات مرة بالخطأ، قال لي (شكراً لك، أنت رقم ١٥٧ أليس كذلك؟) فأجبته (نعم أنا جارك الذي يسكن هذا العنوان). وحين صادفه جارنا الآخر يوهان وقدم له التحية، أجابه سيبراند (أهلاً ١٥٥) وهكذا مع بقية الجيران الذين تحولوا الى أرقام.
ذات ظهيرة، وفيما أنا منشغل بالرسم، جاءَ جاري هينك الذي يبعد عني بيتين وتربطني به علاقة جيدة، وإقترب مهللاً وهو يصيح (لقد عرفت السر تواً، الآن فهمت الحكاية) سألته عن قصده، فأجابني بأنه لم يعد بإمكانه مقاومة الفضول بشأن المكان الذي يذهب اليه سيبراند، لذلك تتبعه سراً في اليوم ذاته، عندها رآه يدخل الى أحد الأحياء القريبة، وهناك يتوقف تباعاً أمام أكياس وبراميل القمامة ليبحث فيها عن علب العصير والجعة الفارغة، ويملأ بها أكياسه، وهكذا يبحث هنا وهناك في المناطق التي لا يعرفه فيها أحد، ويجمع علب الشراب التي يتخلص منها الناس. وبعد عودته الى البيت يضعها من جديد في أكياس كبيرة، ليأخذها فيما بعد ويبيعها مقابل بعض النقود. إنها نقود قليلة، لكنها كافية في إثارة رغبته بالمضي في هذا العمل الغريب. لقد وجد السيد سيبراند هواية جديدة وغريبة إذن، بعد أن أعلنت المتاجر والمحلات عن إمكانية استرجاع العلب الفارغة الى أي سوبرماركت مقابل عشر سنتات للعلبة الواحدة، ولا يهم إن كانت العلب مضغوطة أو سيئة المظهر. سيبراند في الثمانين من عمره تقريباً، لديه بيت كبير وجميل وهو يحصل على تقاعد جيد يكفيه لكل متطلباته، وفوق هذا فمصاريفه قليلة وحياته المتقشفة لا تحتاج الى المزيد من النقود. لكن مع ذلك يخرج دافعاً عربته أمامه صباح مساء هائماً بين القمامة، والغريب هو خروجه بنشاط ممزوج بالمتعة والنشوة، حيث يُثَبِّتَ على العربة عَلماً برتقالياً صغيراً يرفرف في الهواء ويتناسب مع حركة الأكياس كلما دفع العربة، وفي الأجواء المشمسة يرتدي بنطالاً قصيراً مع جوارب حمراء أو برتقالية من نوعية (هَبي سوكس) وتي شيرت بلون فاقع ويعتمر قبعة كاب بشكل معكوس كما يفعل الشبان الصغار، وينطلق بجولاته المعتادة. وهكذا لا يكف سيبراند عن الخروج يومياً مهما حدث، حتى في أيام المطر حين أقفُ خلف النافذة أنظر الى الخارج بإنتظار تحسن الجو، أراه مارقاً من أمام نافذتي وقد ثَبَّتَ مظلة زرقاء كبيرة على عربته، ماضياً لا يلوي على شيء، في طريقه للبحث عن أهدافه المنشودة من العلب الفارغة. الشيء الممتع في رؤية سيبراند بالنسبة، هو رؤيته محاطاً بالألوان دائماً، كإنه قوس قزح يتجول في الشوارع، وربما يرى الناس إن مظهره غريباً، لكن هيئته بالنسبة لي فيها الكثير من الطرافة والبهجة. قبلَ أيام كنتُ أتحدثُ مع إحدى الجارات ولمحناه عائداً بغنيمته، فسألتني الجارة ساخراً (هل يمكنك تخمين كمية النقود التي يحصل عليها لوكاس مقابل العلب الفارغة؟) فأجبتها (لا يمكن لأحد أن يعرف ذلك، وسط جولاته التي لا تُعد ولا تُحصى) ثم أكملتُ (رأيته البارحة قرب السوبرماركت يعد النقود، لكن هل تعتقدين بأني أملك الجرأة على سؤاله عن كميتها؟) فوضعتْ يدها على فمها، كاتمة قهقهتها، فيما خطفَ سيبراند بكل ثقة مثل نفاثة صغيرة، لا يشغله شيئاً سوى أكياسه العامرة.